
وفي إطار تنظيم شئون الأسرة، وما قد يعتريها من تعكير صفو العلاقة الزوجية إلى درجة يتعذر على الشريكين الحياة معا، فيلجآن إلى الطلاق، يبين الله تعالى بعض أحكام الطلاق استكمالا لأحكام سورة البقرة، ويوجه الخطاب إلى «النبي» بشخصه، وذلك زيادة في الاهتمام بهذا الأمر، ولبيان أن رسول الله هو المبلغ والمنفذ لأحكام شريعة الله القرآنية، في فترة التنزيل واكتمال الدين، وإن كان الأمر عاما يشمل جميع المسلمين، فيقول الله تعالى مخاطبا رسوله المصطفي:
«يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً»
إن قرار الطلاق وانفصام عرى الزوجية لا يقوم على انفعالات، تصحبها أيمان، تحمل قرارات، يجد المرء نفسه بعدها في وضع لم يكن هو الذي يريده.
إن قرار الطلاق ليس كلمة تخرج على اللسان في لحظة زمنية، وإنما هو «معنى يتفاعل في قلب المرء فترة زمنية طويلة»، فيخرج كلمة قلبية تعي تماما كل أبعاد ونتائج هذا القرار.
إن الزواج آية من آيات الله الكونية، قام عليها هذا الوجود البشري، فيستحيل أن يهدم «في لحظة غضب»، فكل يمين يمنع صاحبه عن فعل خير أو صلة رحم أو المحافظة على كيان أسرته، فهو لغو يوجب فقط الكفارة، لذلك سبقت أحكام الطلاق في سورة البقرة هذه الآيات:
«وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ»
ويقول الله تعالى:
«لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
إن قوله تعالى في آية البقرة: «والله غفور رحيم»، وفي آية المائدة: «لعلكم تشكرون»، بيان لمدى الرحمة الإلهية التي قامت عليها هذه الشريعة الإسلامية، فالله تعالى يغفر لكم ما جرى على ألسنتكم مما لا تقصدون حقيقته رحمة بكم، فهلا شكرتموه؟!
الحقيقة أن من فقهاء المذاهب من أقام على هذه الأيمان أحكام طلاق، فهدموا بذلك الأسر بغير الحق الذي أمرهم الله به، انتصارًا لمذاهبهم، واتباعًا لأهوائهم.
إن من المذاهب من وقفوا عند ظاهر اللفظ الذي ينطق به اللسان، ولو كان مازحًا، أو ممثلًا، فقالوا: لو قال رجل مازحًا «لو تزوجت فلانة فهي طالق»، وتزوجها فعلا، عليه أن يطلقها فور زواجها!!
لقد اعتبروا الطلاق يمينا، كاليمين المشهور: «عليَ الطلاق لأفعلن كذا»، وهنا يكون أمام الحالف خياران: إما أن يفعل وإما أن يطلق.
فانظر كم من البيوت خربت وهدمت بمثل هذه الفتاوى غير المسؤولة، والتي تشجع الأزواج على اتخاذ مثل هذه الأيمان سوطًا يهددون به أزواجهم، ظلمًا وعدوانًا، ثم بعد ذلك يذهبون إلى فقهائهم يصرخون ويبكون ويعتذرون!!
لقد بين الله تعالى أن من حق الزوج أن يهجر زوجه في المضجع، كمرحلة من مراحل العلاج، في حالة الخوف من نشوزها، وذلك إذا لم تُجد معها الموعظة، انظر الآية «34» من سورة النساء، ولكن قد يستغل الزوج هذا الأمر ويحوله إلى قرار دائم بألا يقرب امرأته، للإضرار بها، فيُحرّمها عليه كتحريم أمه، وهو ما يُعرف بالظهار، يقول الله تعالى:
«قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ . الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ»
فها هو الوحي القرآني يتفاعل مع أحداث ومواقف عصر الرسالة، ويعرض لنا مشكلة امرأة مسلمة، لم يمنعها حياؤها من معرفة أمور دينها.
لقد جاء الوحي القرآني يلخص ما دار بينها وبين رسول الله من حوار، مبينا بطلان ما كان في الجاهلية من عادة الظهار، وهو أن يقول الرجل لزوجته: إني جعلت قربك ومباشرتك كقرب ومباشرة أمي، فتحرم بذلك عليه حرمة مؤبدة، فيقول الله تعالى بعدها:
«وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»
إن تشبيه الزوجة بالأم وتحريم معاشرتها ليس طلاقا ولكن معصية يجب التوبة منها والإقلاع عنها، فمن وقع في ذلك أول مرة فإن الله لعفو غفور، ومن عاد فكفارة قبل أن يتماسا، ثم يقول الله تعالى في حكم هذه المسألة:
«فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ»
إن محادة الله ورسوله، والكفر بالله ورسوله، ومعصية الله ورسوله، كل ذلك لا يوصف به إنسان بعد وفاة رسول الله واكتمال الدين إلا إذا كان موضوع هذه «المحادة» أو «الكفر» أو «المعصية» متعلقًا بآيات الله البينات، التي بلغها رسوله كلمة كلمة، وشهد على تدوينها بنفسه، وتعهد الله بحفظها للناس جميعا إلى يوم الدين، فيقول الله تعالى بعدها:
«إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ»
وقد يقسم الزوج ألا يقرب زوجه وهو ما يعرف شرعا بالإيلاء، فأعطى الله تعالى الزوجين فترة من الوقت يبحثان خلالها أسباب الخلاف التي دعت الزوج إلى هذا القرار قبل العزم على الطلاق، فقال تعالى بعد آيات سورة البقرة السابق ذكرها والخاصة بالتحذير من اللعب بالأيمان:
«لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»
إذن فقد ينتج عن غضب الزوج قَسَم بالظهار، أو الإيلاء، وكلها ثمرة «حالة نفسية» يشعر فيها الزوج بكراهية زوجه، فأعطى الله تعالى للأزواج مهلة طويلة تساعدهم على بحث سبل علاج مشاكلهم، قبل العزم على الطلاق، فإن عادوا إلى حالتهم الطبيعية، فإن الله يغفر للزوج ذنبه أن أقسم ألا يقرب امرأته في حق لها قد سلبها اياه.
لقد نزلت «الآيات القرآنية» لحماية المرأة من تعنت زوجها وهجرها فترة طويلة دون سبب يدعو إلى ذلك، سواء أقسم ألا يقربها أو لم يقسم، وتبيّن أن الطلاق لا يقع بكلمة تقال في حالة غضب، وإنما بعزم يخرج من القلب بعد تبيّن أوجه الصفات أو الطباع التي يستحيل معها دوام الحياة الزوجية.
إن قرار الطلاق «يجب أن يعيش في وجدان الزوج فترة قبل أن يخرج على لسانه»، فماذا لو عزم الزوج على الطلاق؟ يقول الله تعالى بعدها:
«وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»
والخطاب هنا للمرأة المطلقة، لإرشادها إلى ما يجب عمله في حالة طلاقها: «الانتظار بدون «مباشرة» حتى تنتهي عدتها، وهي هنا «ثلاثة قـروء»، هي عدة الحائض، ويستحيل أن تعلم المرأة المطلقة معنى الكلمات التي وردت في سياق بيان أحكام الطلاق من ذات النص أو السياق القرآني، وإنما عليها الرجوع إلى مراجع «اللغة العربية».
إن مادة «قرء» تعني جمع الأشياء وضمّها، والقرء فترة زمنية يجتمع فيها الطهر والحيض في مكان واحد، وهو رحم المرأة، والهدف من التربص هو استبراء رحم المطلقة، والتأكد من خلوه من الحمل بتكرر الحيض، ولا يصح استبدال «القروء» بأسابيع بحجة أن التقنيات العلمية الحديثة تستطيع معرفة براءة الرحم في فترة وجيزة، «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»
إن كل ما نص القرآن على وجوبه فهو واجب على مر العصور، وعلم الإنسان محدود، وضمائر الناس تفسد وتتغير، فإذا أصبحت أحكام الشريعة في يد البشر، تغيرت حقيقتها، وانحرفت عن صراط الله المستقيم.
وقرار الطلاق ليس قطعًا للرابطة الزوجية ما دامت المرأة لم تخرج من عدتها، تلك الفترة التي يسعى كل طرف خلالها إلى مراجعة نفسه ومحاولة إصلاح ذات البين، ويحذر الله تعالى المطلقة من إنكار حملها، نكاية في زوجها لتقطع عليه طريق الرجعة، لذلك قال الله تعالى: «وبعولتهن أحق بردهن في ذلك» يعني خلال فترة العدة، فإذا خرجت المرأة من عدتها، انقطعت عرى الزوجية، وأصبح لا يحل للمطلق ردها إلا بزواج جديد وشروط جديدة.
والسؤال: كم عدد مرات الطلاق التي يستطيع الزوج رد امرأته دون عقد جديد؟
يقول الله تعالى بعدها: «الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ»
إن الطلاق الذي يحل للزوج إمساك امرأته بعده مرتان، أي فترتان يتم خلال كل فترة منهما ردها في «زمن العدة»، التي وردت في قوله تعالى للنبي: «يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ»، ولذلك لا يقع الطلاق مطلقا بقول الزوج لامرأته «علىَ الطلاق بالثلاثة»!!
إن قول الله تعالى: «وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ»، موجهًا الخطاب إلى أعلى سلطة في الدولة، تقوم على تنفيذ «الشريعة القرآنية»، وليس إلى الزوجين، هو البرهان قطعي الدلالة على أن قرار الطلاق قرار ليس قرارً فرديًا، وإنما قرار مؤسسي، تشترك فيه المؤسسات المعنية بشؤون الأسرة، وتحت إشراف رئيس الدولة، «يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ»، فقرار الطلاق يشكل خطرًا كبيرًا على الكيان الاجتماعي والأسري في الدولة، لذلك خاطب الله فيه «النبي»، بصفته المسؤول عن «السلطة التنفيذية».
إن فترة العدة بمثابة مرحلة علاجية، تحمل إنذارا للطرفين بقرب قطع الرابطة الزوجية نهائيًا، فنحن أمام موقفين مختلفين، حدثا على مرحلتين متباعدتين، لكل مرحلة ظروفها الخاصة التي يحاول كل طرف استنفاد ما في وسعه للبقاء على علاقته الحميمة بالآخر.
الطلقة الأولى: أن يُبلّغ الزوج امرأته بـ «نية الطلاق»، بعد أن وجد أنه يجب عليه أن يُطلِق سراحها من قيود الزواج، فيخبرها بذلك كي تعتد، وتُحصي العدة، كما أمر الله تعالى في سورة الطلاق، وهي للمرأة الحائض «ثلاثة قروء»، كما ذكرت سورة البقرة.
ولما كانت فترة الحيض فترة آلام وتغيرات في طبيعة المرأة، قد ينتج عنها توتر عصبي، وتغير في مظهرها الجمالي، فإن من رحمة الله تعالى أن أمر الزوج ألا يوقع الطلاق في هذه الفترة لعل هذه الظروف تكون وراء قراره هذا.
إن الطلاق لا يقع مطلقا في فترة حيض، ولا في طهر باشر الزوج فيه امرأته، فكيف يباشرها وهو يريد طلاقها؟! فإن باشرها فسيبدأ الرحلة من أولها، وحكمة ذلك أن تكون هناك فترة زمنية طويلة، يراجع خلالها الزوجان موقفهما، قبل اتخاذ «قرار الطلاق»، وخلال فترة العدة، «الرابطة الزوجية» ما زالت قائمة، فإذا مات أحدهما يرثه الآخر.
لذلك أمر الله الزوجين، ومن حولهما، ألا تغادر المرأة بيت الزوجية حتى تنتهي عدتها، لقوله تعالى في آية سورة الطلاق: «لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا»، وهذا من أدلة وجوب إمساك المرأة في بيت الزوجية فترة العدة، فإمساك الشيء لا يتحقق إلا إذا كان في مكان يمكن الإمساك به فيه، والذي هو بيت الزوجية.
فإذا طهرت المرأة، وعادت إليها حيويتها، وهدوء نفسها، فقد تتغير «نية الزوج» بعد هدوء نفسه هو أيضا، وعلى هذا الأساس أفهم قول الله تعالى في آية سورة الطلاق: «فطلقوهن لعدتهن»، أنه أمر للزوج بأن يؤخر «قرار الطلاق» حتى تطهر زوجه.
فإذا باشر الزوج زوجه أثناء فترة العدة، و«عادت المياه إلى مجاريها»، ولم تتحول «النية» إلى «قرار»، فلا شيء عليهما، أما إذا أصر الزوج على موقفه، خلال فترة العدة، فعليه أن يُحضر اثنين من الشهود العدول لإبلاغهما «قرار الطلاق»، ويعلن ذلك أمامهما، وتصبح هذه هي «الطلقة الأولى».
وبدون هذا الإشهاد يبطل الإمساك ويبطل التسريح لقول الله تعالى في سورة الطلاق:
«فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً»
فسواء كان الأمر متعلقًا بالإمساك، أو بالتسريح، فشرط الإشهاد فريضة، لأن هناك حقوقا ستترتب على كليهما، لذلك أتبـع الله الأمـر بالإشهـاد بقوله عـز وجل: «وأقيموا الشهادة لله»، «ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر»، «ومن يتق الله يجعل له مخرجا»، فكما أشهد الزوج على الطلاق، فعليه أيضا أن يشهد على الرجعة، فليس الطلاق بأهم من الرجعة في الآثار المترتبة عليهما.
وعلى المجتمع المحيط بالمرأة أن يذلل أمامها كافة الصعاب التي تحول دون عودتها إلى زوجها السابق، بعد الطلقة الأولى، تدبر قول الله تعالى في سورة البقرة:
وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»
تدبر قول الله تعالى: «إذا تراضوا بينهم بالمعروف»، ولم يقل «إذا تراضيا»، وذلك لبيان أن قرار استئناف العلاقة الزوجية بعقد نكاح جديد قرار عائلي يشترك فيه كافة الأطراف المعنية بهذا الرباط المقدس، من شهود وحكام وأقارب، لوضع الأسس التي تضمن لهذا الزواج الجديد حياة مستقرة سعيدة.
أما ما قاله فقهاء المذاهب في عدم اشتراط الإشهاد في الطلاق أو في الرجعة، فلا تقوم به حجة، لقد هدموا كيان أسر لا حصر لها بهذه الاجتهادات المذهبية التي لا تقوم على «الشريعة القرآنية»، فماذا لو أن الزوج بعد أن طلق امرأته الطلقة الأولى دون إشهاد جاء فأنكر بعد ذلك هذا الطلاق، أو مات فأنكرت المرأة طلاقها؟!
أو لو طلق الزوج امرأته رسميًا، ثم راجعها في فترة العدة، دون إشهاد، ثم حدثت بعد ذلك خلافات بينهما، وكانت قد أنجبت ولدًا، فأنكر الزوج نسبة هذا الولد إليه، اعتمادًا على ما هو ثابت أمام الجهات الحكومية، أنه قد طلقها؟!
إن قضايا «إنكار النسب»، في محاكم الأحوال الشخصية، خير شاهد على ذلك، وغيرها من مآسي ومفاسد عدم الإشهاد، سواء كان ذلك بالنسبة للطلاق أو بالنسبة للرجعة، فليس معنى أن من حق الزوج إمساك زوجه خلال فترة عدتها «الرجعة» بغير عقد جديد، أن يكون الإشهاد على هذه الرجعة مما يباح فعله ولا يأثم المرء على تركه، «بل يأثم على تركه»، وتعتبر أركان الطلاق أو الرجعة غير تامة.
إن إجماع علماء المسلمين كافة، على مسألة تخالف «الشريعة القرآنية»، ليس حجة في دين الله تعالى، وإن أصبح ذلك عرفًا سائدًا بين الناس، وذلك لما يترتب عليه من مفاسد، ومن عبث بحقوق النساء، لا يعلم عواقبه البشر، وإنما يعلمها الله العليم الحكيم.
الطلقة الثانية: ينطبق عليها كل ما سبق بيانه بالنسبة للطلقة الأولى، في إطار قول الله تعالى: «الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان».
الطلقة الثالثة: هل من حق الزوج بعد الطلقة الثالثة أن يمسك امرأته في بيت الزوجية كما سبق في الطلقتين السابقتين، للعمل على إصلاح ما عكر صفو الحياة الزوجية؟! هنا يقول الله تعالى:
«فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»
أي أنه بعد الثالثة لا يحل للزوج فور إطلاق سراح امرأته أن يمسكها في بيت الزوجية كما كان يحدث في الطلقتين السابقتين، وذلك لانتفاء علة هذا الإمساك، فلا أمل في رجعتها إلا إذا شقت طريقا آخر، وتزوجت زوجًا آخر، ثم حدثت ظروف طبيعية أدت إلى طلاقها، أو وفاة زوجها، هنا يحل لها الرجوع إلى زوجها السابق، «إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ».
إن حدود الله يحرم تعديها باجتهادات أئمة السلف الفقهية، أو بمرويات الرواة المذهبية، التي لا تقوم على فهم واع لآيات الذكر الحكيم، وإنما على مصدر تشريعي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، «هدم كيان أسر، ما كان لها أن تهدم».
محمد السعيد مشتهري