إذا كان المؤمنون، أتباع رسول الله محمد، هم خير الأمم، فلماذا تخلوا عن هذه النعمة، وعن هذه الفضيلة، وأصبحوا:
* «كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ»
* «وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»؟!
ولقد بيّن الله هذا العذاب العظيم بقوله «الآية ١٠٦»:
* «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ»
وقد استحقوا ذلك بأعمالهم، وهجرهم القرآن، وكفرهم بنعم الله عليهم، وخالفتهم لقوله تعالى «الآية ١٠٣»:
* «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً..»
* «..وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»
أولًا:
هل قوله تعالى:
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»
يعني أنهم «كانوا» بهذه الصفة، ثم تخلوا عنها أو فقدوها؟!
كيف، والآية تخاطب رسول الله والذين آمنوا معه في عصر التنزيل ولم يكن الدين قد اكتمل، ولم تتم النعمة، فمتى كانوا خير أمة؟!
إن الحديث عن شيء مضى لا يعني انقطاعه في الحاضر والمستقبل، وبرهان ذلك قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً»
فهل انتهت فعالية اسم الله «الغفور»؟!
لقد أراد الله أن تكون أمة نبيه الخاتم محمد «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»، ولكن هذه الإرادة تنفذ بمشيئة أفرادها، وتفعليهم لنصوص «آيته القرآنية»، أي تحصل لهم هذه الخيرية بحصول أسبابها ووسائلها.
وعندما يُفضّل الله أمة رسوله محمد على سائر الأمم، «أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»، فهذا معناه أن تكون هي على رأس القوى العظمى اليوم، فما الذي حدث؟!
ثانيًا:
لقد تخل أفراد الأمة عن مسؤولياتهم، ولم يقيموا الشهادة على الناس، ولم يُخرجوهم من الظلمات إلى النور، ولم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، وظلوا على هذا الحال إلى يومنا هذا!!
انظروا إلى حياة المسلمين، في أعمالهم، وفي بيوتهم، فهل تجدون لفريضة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» أي فعالية؟!
فكيف بكم عندما تعلمون أن الله قدّم هذه الفريضة على «الإيمان بالله»، فقال تعالى مبينًا علة تلك الخيرية:
* «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ»
ثم قال بعدها:
* «وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»
وهل «الإيمان بالله» يأتي قبل الأمر بأحكام الشريعة أم بعده؟!
طبعا «الإيمان بالله» مقدم على أحكام الشريعة، ولكن الله جاء بهذه الصياغة، وبهذا الترتيب، للتنويه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولبيان أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأن غياب هذه الفريضة سيكون سببًا في انهيار أمتهم وتخلفها.
ثالثًا:
وقد يسأل سائل: ولماذا اكتفى الله بذكر الإيمان بالله، في سياق بيان خيرية الأمة، ولم يعطف عليه الإيمان بالرسول؟!
لأنها بدهية إيمانية منطقية، فكيف يصل الإنسان إلى حكمة الخلق، وماذا يريد الخالق، دون الإيمان بالنبوات، وبإرسال الرسل، الذين هم حلقة الوصل بين الله والناس؟!
ولذلك فإن الذين يدّعون أن من يقول «أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» قد أشرك بالله، هؤلاء هم أعضاء «منظمة الإلحاد العالمية»، الذين لم يكتفوا بضلالهم، وإنما ذهبوا يُضلّون الناس بغير علم.
فأين نذهب بالآيات التي عطفت الإيمان بالرسول على الإيمان بالله في جملة واحدة، كقوله تعالى:
«فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ..»
فهل عندما يقول المسلم:
أشهد أني آمنت بالله وبرسوله يكون قد أشرك بالله؟!
ما هذا «الجهل»، وما هذا «الهوس الديني»، الذي أصاب المبتدعين من أصحاب بدعة «القرآن وكفى»؟!
رابعًا:
ثم قال تعالى:
* «وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ»
فالله تعالى يُرغّب «أهل الكتاب» في الإيمان بـ «النبي الخاتم» واتباع رسالته.
ونلاحظ أن الخطاب يشملهم جميعًا، وليس بعضهم.
ثم قال تعالى بعدها:
* «مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ»
١- إن الألف واللام في كلمة «الْمُؤْمِنُونَ» للمعهود السابق، أي تتعلق بـ «أهل الكتاب»، ولقد أدخل الله «الْمُؤْمِنُونَ» في مسمى «أهل الكتاب» من باب ترغيب الذين لم يؤمنوا منهم.
٢- ولذلك جيء بالاحتراس بقوله «مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ» حتى لا يتوهّم أن وصف «أهل الكتاب» يظل ملتصقًا بمن دخلوا في الإسلام منهم، لأنه لا يعقل أن يظلوا «كافرين» بعد أن تديّنوا بالإسلام.
٣- «الْفَاسِقُونَ» هم الأكثرية من أهل الكتاب، وهم الذين لم يؤمنوا بالنبي محمد.
والسؤال:
فهل يُعقل، بعد هذا البيان القرآني قطعي الدلالة، أن يأتي الله بعد ذلك ويدخل الذين كفروا بالنبي محمد وبرسالته الجنة، بدعوى أن الله يقول:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ»
يا أيها «الجُهّال» ادخلوا جحور «الجهل» حتى يتوفاكم الموت؟!
وبمناسبة سياق هذه الآيات يجب أن أبيّن و«أكرر»:
– أنني عندما أتحدث عن «أحكام القرآن»، فأنا أتحدث عن «ما يجب أن يكون»، وأبيّن ما قاله الله في كتابه، والذي جاء نصه بالدلالة القطعية التي لا شبهة فيها.
– وعندما أتحدث عن «أهل الكتاب»، ووجوب اتباعهم للنبي الخاتم محمد، فذلك للرد «العلمي» على الملحدين المسلمين، الذين يثيرون هذه الشبهة بين عوام المسلمين، الذين لا علم لهم.
– ولقد ذكرت أكثر من مرة أن كل ما يتعلق بأحكام «أهل الكتاب»، والتعامل معهم، لا يجب أسقاطه على الواقع المعاصر، ولا أن نُرتّب على كفرهم بالنبي محمد عقوبات، لأن «دين الإسلام»، الذي ارتضاه الله للناس لا وجود له أصلًا اليوم!!
محمد السعيد مشتهري