لقد كان فريق من أهل الكتاب يبذلون أقصى جهودهم لإضلال المؤمنين، وإبعادهم عن اتباع النبي محمد، فأمره الله أن يقول لهم «آل عمران ٩٨-٩٩»:
* «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ»
* «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ»
ثم توجه الخطاب إلى المؤمنين، يُحذرهم من طاعة هؤلاء الكافرين، الذين يريدون أن يُخرجوهم من ملة الإسلام.
فقال تعالى «الآية ١٠٠».
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ»
– إن المداهنة واللين والتنازل عن أحكام القرآن، لإرضاء منظمات الإلحاد العالمية، نهايته الردة والكفر بالله وبكتابه.
ولذلك قال تعالى بعدها «الآية ١٠١»:
* «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ»
تدبر: «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ»
إنه التعجب الذي يستحيل أن يصدر عن الله عز وجل، عالم الغيب والشهادة، وإنما هو أسلوب مستعمل في الاستبْعَاد والنفي المطلق، أن يقف إنسان عاقل أمام الآيات «المقروءة» وتفاعلها مع الآيات «المشاهدة»، ثم يكفر ولا يدخل في «دين الإسلام»!!
إن قوله تعالى:
«وَفِيكُمْ رَسُولُهُ» لا يعني «وَفِيكُمْ نَبِيّه»، وإن كان يشمله، لأن «النبوة» مرتبطة بـ «الوحي»، والوحي مرتبط بحياة «النبي»، والنبي محمد سيموت كسائر الأنبياء، وتبقى رسالته قائمة بين الناس إلى يوم الدين.
ولذلك لم يؤيد الله رسوله محمدًا بـ «آيات حسية» تنتهي فعاليتها بموته، كما حدث مع سائر الأنبياء، وإنما أيده بـ «آية قرآنية عقلية» تمتد فعاليتها إلى يوم الدين.
– إن الباب الوحيد للدخول في «دين الإسلام» هو باب التصديق بفعالية «الآية القرآنية»، أي بالآيات المقروءة وتفاعلها مع مقابلها الكوني المشاهد.
– إن فعالية «الآية القرآنية» فعالية معاصرة، يجب أن يُربى الآباء أبناءهم على مفهومها، حتى إذا بلغوا النكاح واكتمل رشدهم، دخلوا «دين الإسلام» من بابه الصحيح، وليس من باب «الإسلام الوراثي المذهبي» وما تفرع عنه من أبواب التراث الديني!!
– إننا يجب أن نرتفع، ونرفع أبناءنا، إلى مستوى المسؤولية الدينية التي تُحرّم على المسلمين جميعًا الانشغال بغير إعادة الدخول في «دين الإسلام» من بابه الصحيح.
– إن هذا الذي نراه على «الفيس بوك»، من منشورات دينية تحدث المسلمين عن تراث فرقتهم ومذهبهم العقدي، سواء بوجوب اتباعه، أو بوجوب حرقه، لا علاقة له مطلقا، لا من قريب ولا من بعيد، بـ «دين الإسلام».
– لقد نجح إبليس وذريته في إبعاد المسلمين عن «دين الإسلام»، وأدخلهم دائرة «الشرك بالله»، بإشعال نار «الفتنة الكبرى» في قلوبهم، فتفرقوا إلى فرق ومذاهب عقدية متقاتلة، وظلوا على هذا الحال إلى يومنا هذا، يعيشون في غيبوبة:
«وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»
– مَنْ مِن المليارين مسلم يملك برهانًا يثبت عدم صحة ما قلته عن هذا الواقع الذي يعيش بداخله المسلمون جميعًا اليوم؟!
فبعد أن قال تعالى:
«وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ»
قال بعدها:
* «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»
إن الاعتصام معناه «التمسك» بالشيء، وهنا «استعارة» تشير إلى التمسك بـ «دين الله»، وطبعا المقصود التمسك بمصدره وهو «القرآن».
وأصل «الاعتصام» من «العصمة» المانعة من وقوع الإنسان في «المحذور»، وقد بيّن الله للذين آمنوا هذا «المحذور»، ونهاهم عن فعله، بقوله تعالى بعدها «الآية ١٠٢»:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»
نعم «وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»
– إن لفظ النهي واقع على الموت، وهل الموت بيد الإنسان؟!
– ثم ما أهمية أن تأتي «وَأَنْتُمْ» بين «إِلاَّ» و«مُسْلِمُونَ»؟!
لأن «أَنْتُمْ» تشير إلى «الكينونة»، ليصبح النهي عن «الكون» على حال غير حال «دين الإسلام»، عند الموت، أي إياك أن تعيش خارج منظومة «دين الإسلام» حتى إذا جاءك الموت، وجدك على هذا الدين.
فهل اتبع المؤمنون «الدين» الذي ارتضاه الله لهم، والذي وعدهم بتمكينه لهم إن هم لم يشركوا به شيئا، كما قال تعالى في سورة النور «الآية ٥٥»:
«وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ .. يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً»؟!
الواقع يشهد بأن المؤمنين تركوا «دين الإسلام» الذي ارتضاه الله لهم، واتبعوا «الإسلام الوراثي» الذي ارتضته لهم مذاهبهم العقدية، وبذلك انتفت عنهم صفة «التقوى».
ونلاحظ أن الله تعالى لم يأمرهم بـ «التقوى» فقط، وإنما أمرهم بالوفاء بحقها «حَقَّ تُقَاتِهِ»، أي اتقوا الله اتقاءًا ثابتًا وواجبًا على كل حال، الأمر الذي لم يفعله المؤمنون!!
– إنهم لم يهتدوا بهدي القرآن، لأن القرآن «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ»، فأين «هم»، وما البرهان على أنهم «هم»؟!
ثم جاء «المحذور» الثاني، والذي هو الأصل، فقال تعالى بعدها «الآية ١٠٣»:
«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا»
تدبر: «وَاعْتَصِمُوا .. وَلا تَفَرَّقُوا»، وبينهما «بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً»
– فأين «حبل الله»، الذي نرى المؤمنين اليوم متمسكين به؟!
– ومن «هم» «جَمِيعاً»، وأين «هم»؟!
– وهل عصى المؤمنون الله و«تَفَرَّقُوا» فعلًا؟!
نعم، وكان من مظاهر هذا التفرق:
– الاختلاف في الدين
– أزمة التخاصم والتكفير بينهم
إن «حبل الله» هو صراطه المستقيم، الذي من انحرف عنه ضل وأضل، وكان مصيره جهنم وبئس المصير، وهذا ما ذَكّرَ الله به المؤمنين في عصر الرسالة، فقال تعالى بعدها:
* «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً»
تدبر: «فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً»
الخطاب إلى الجيل الأول من المؤمنين، الذين كانوا على «دين الإسلام» الذي كان عليه رسول الله.
– فهل تواصلت حلقات هذا الجيل المؤمن؟!
– أم انقطعت بسبب تفرقهم في الدين؟!
لقد عادوا «أَعْدَاءً» كما كانوا في عصر الجاهلية، فاستحقوا أن يعودوا إلى نار جهنم بعد أن أنقذهم الله منها:
* «وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا»
إن كلمة «شَفَا» مذكر، وكان المفروض أن يكون السياق فأنقذكم منه، أي من المكان والموضع الذي كانوا فيه، فلماذا قال تعالى: «فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا»؟!
– لبيان أن الاقتراب من شفا حفرة النار يوقع الإنسان في «النار» نفسها، حتى لا يستخف المؤمنون بـ «الصغائر» فيقعوا في «الكبائر».
لقد بعث الله رسوله محمدًا برسالته الخاتمة، التي حملت نصوص «آيته القرآنية» القائمة بين الناس إلى يوم الدين، وذلك لإنقاذ الناس من نار جهنم، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر.
والذين خاطبهم الله في هذه الآيات هم «الذين آمنوا»، يُذكّرهم بنعمة الهداية إلى صراطه المستقيم، لذلك ختم الله الآية بقوله تعالى:
* «كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»
– فهل تواصلت حلقات «البيان» و«الهداية» بين المؤمنين، منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، أم كفروا بنعمة الله وأصبحوا بتفرقهم في «دين الإسلام» أعداءً؟!
إن الحقيقة التي تؤلم الكثير، ولا تعجبهم، أن كل ما يُنشر على وسائل الإعلام المختلفة، بجميع صورها وأدواتها، لا علاقة له بـ «دين الإسلام» الذي ارتضاه الله للناس.
وإنما هي «فتنة شيطانية» تلبس لباس المعاصرة والتنوير، يقودها عدد لا يتجاوز أصابع اليدين، ويتبعهم آلاف «البَبْغاوات» من الذين لا يعلمون شيئا عن «الفريضة الغائبة» التي سبق بيانها.
محمد السعيد مشتهري