لا ترادف بين كلمتي «العدل» و«القسط» في اللغة العربية، ولا في السياق القرآني، إذن فكيف نفهم قوله تعالى عن الطائفة الباغية:
«فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»
كيف نفهم:
١- «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ»
٢- «وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»
لماذا قال «وَأَقْسِطُوا» وقد قال قبلها «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ»؟!
أولًا:
العَدل: بالفتح ضد «الجَوْر»، و«عَدَلَ» عن الطريق أي «جار»، و«العَدل» ما عَدل الشيء من غير جنسه، و«العَديل» الذي يعادل غيره في الوزن والقدر، و«العديل» بالكسر يعني «المِثْل»، و«تَعْديل» الشيء تقويمه، و«تَعْديل» الشهود وصفهم بالعدول.
وتأتي «عَدْلٌ» بمعنى «الفدية»:
«وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ»
«وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا»
«أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً»
ويأتي الفعل «يَعْدِلُونَ» بمعنى الإشراك بالله، وذلك بمماثلة غيره له سبحانه:
«ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ»
إن «العدل» قيمة «أخلاقية» محلها القلب السليم، تستصحب المؤمن في جميع أمور حياته، حاملًا الحق، حتى في حال غضبه وكراهيته للآخر.
إن «العدل» ليس قيمة «مادية» يمكن وزنها بالميزان المادي، فقد يكون «الميزان» بيد «جائر» فلا يعطي الوزن الصحيح.
ولذلك يدور الأمر بـ «العدل» في السياقات القرآنية حول محور الحق والباطل، التقوى والهوى، الحب والكراهية.
ومثال ذلك:
١- «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»
٢- «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى»
٣- «فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا»
٤- «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»
٥- «وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ .. وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ»
٦- «وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً .. يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ»
٧- «وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ»
ثانيًا:
القِسط: ويعني الحصة والنصيب، نقول قَسّطنا الشيء بيننا، ويجب أن تكون «القسمة» خالية من أي «جور»، ولذلك سمى الله «الميزان» بـ «القِسطاس»، فقال تعالى:
«وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ»
ولذلك ارتبط «القسط» بـ «الميزان» في كثير من الآيات.
والسؤال:
لماذا يحب الله المقسطين: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»
ولم تأت إشارة إلى حب «العدول»، فهل هذا معناه أنه سبحانه يكرههم؟!
أبدا، ولكن لكون «القسط» يخضع لموازين وحسابات دقيقة، قد تكون أشق على النفس وأصعب، من «العدل» المتعلق بالحقوق المعنوية التي قد يتدخل فيها «هوى» النفس، ولذلك عطف عليه «القسط» ليحث الناس على الأخذ بالمعايير الدقيقة:
«فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا»
ولقد جاء «القسط» في سياق المحافظة على حقوق «اليتامى».
ومن الآيات التي ورد فيها الأمر بـ «القسط»:
١- «وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ»
٢- «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ»
٣- «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ»
٤- «..الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ .. أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ»
٥- «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ»
وكما أمر الله بـ «القسط» أمر أيضا:
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»
ولماذا أنزل الله على رسوله محمد الكتاب والميزان؟!
٦- «..وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»
«لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»:
فهل أقام المسلمون «القسط» بين الناس؟!
إن المسلمين يعيشون في «غيبوبة الجهل» التي يستيقظون منها يوم أن توضع الموازين بـ «القسط» فلا تظلم نفس شيئًا:
٧- «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً»
ويوم يُقضى بينهم وبين رسولهم محمد بـ «القسط»:
«فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»
ثالثًا:
عندما عالج السياق القرآني ما اعتاد عليه المسلمون في الجاهلية من نكاح «اليتيمات» وأخذ «الأوصياء» أموالهم، نزل القرآن يأمر المسلمين بالابتعاد نهائيًا عن نكاح «اليتيمات»، إلا إذا كان قائما على «القسط»، فقال تعالى:
* «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى»
ولقد بيّنت معنى هذه الجملة في المنشورات السابقة، وأنها تتحدث نكاح «يَتَامَى النِّسَاءِ» الوارد ذكرهن في «الآية ١٢٧»
لقد استخدم السياق لفظ «القسط» لبيان أن المحافظة على أموال وحقوق «اليتيمات» شرطٌ أساس يجب أن يسبق التفكير في نكاحهن، بعيدا عن مشاعر الرعاية والتربية.
ولذلك أحال الله الذين يشعرون بالخوف من عدم القسط «فِي الْيَتَامَى» إلى «النكاح» المعروف.
ولكن الله تعالى قيّد هذا «النكاح» بقيد العدد، فقال تعالى بعدها:
«فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ»
ثم قيّد «العدد» بقيد آخر، فقال تعالى:
* «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً..»
والسؤال:
لماذا لم يقل الله تعالى في سياق «نكاح النساء» المعروف:
«فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فَوَاحِدَةً..»
كما قال في سياق الحديث عن نكاح «يَتَامَى النِّسَاءِ»:
* «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا..»؟!
لأننا أمام «نكاح» تحكمه «المشاعر القلبية» بين الطرفين، ولسنا أمام «نكاح» يجب أن تسبقه «حسابات دقيقة» تحفظ حقوق «اليتيمات» بصفة خاصة.
ولاستحالة أن يتحقق شرط «العدل» بين «النساء»، وذلك لاستحالة التحكم في مشاعر الرجال «القلبية»، على أساس «القسط».
أخبرنا الله أنه يعلم ذلك، ثم جاء بحكم تشريعي ضابط لهذه «المشاعر القلبية»، فقال تعالى عن الخبر:
* «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ»
– ثم عن التشريع:
* «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ»
* «وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً»
والسؤال:
هل يُعقل أن يبيح الله «تعدد الزوجات» بشرط «العدل» بين «النساء»، ثم يقول لنا:
«وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ»؟!
الجواب:
كهذا يفهم «الجهلاء»، و«الملحدون» القرآن!!
رابعًا:
إن الشيء الوحيد الذي «نجح» فيه المسلمون، أنهم استسلموا إلى «ما هو كائن»، وأصبح الحديث عن «ما يجب أن يكون» يُغضبهم، ويجعلهم يكرهون من يتحدث عنه، حتى لو كان «حقًا»!!
إن الشيء الوحيد الذي «أفَلَحَ» فيه المسلمون، أنهم يتبعون «دين المذهبية» وليس «دين الإسلام»، فها هم يروْن البراهين القرآنية قطعية الدلالة على «نفاقهم»، وانحرافهم عن «إسلام الرسول» ويعطونها ظهورهم!!
ولذلك لم يكن غريبًا ولا عجيبًا أن يُعجب مسلمون بـ «الجهل» ويرونه استنارةً وتقدمًا حضاريًا!!
محمد السعيد مشتهري
ملاحظة: الفيديو المرفق مجرد عينة للوقوف على طبيعة برامج «التوك شو»، وعلى أي أساس «شرعي» من «دين الإسلام» يشارك فيها المتحدثون «السلفيّون والمستنيرون»، وحتى المداخلات يفتقد أصحابها الرؤية الشاملة لأولويات العمل الإسلامي اليوم، والمنهجية العلمية التي على أساسها نتعامل مع أحكام القرآن، والجهل باللغة العربية وعلومها، وخاصة الفرق بين «القسط» و«العدل»