إن قضية «تعدد الزوجات» تتعلق بظروف وتحديات عصر التنزيل واكتمال الدين، كغيرها من القضايا التي ورثها المسلمون عن عصر الجاهلية، ونزل القرآن يُصحّح، ويُشرّع، ويُبيّن لهم وجه الحق فيها.
أولًا:
إن قوله تعالى في «الآية ١٢٧» من سورة النساء:
* «وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ»
يُبيّن أن هناك إشكاليات تتعلق بأحكام «النساء»، الصغيرات والكبيرات، اليتيمات وغير اليتيمات، نزل القرآن ببيانها وعلاجها في كثير من آيات الأحكام.
ومن هذه الإشكاليات ما كانت تتعرض له «اليتيمات» في عصر الجاهلية من ظلم بيّن، وهو «نكاحهن» وأخذ أموالهن وعدم إعطائهن حقوقهن، بدعوى أن ذلك مقابل ما قام به «الأوصياء» من تربيتهن، وخدمتهن، ورعايتهن، حتى بلغن سن النكاح.
ولقد جعل القرآن رعاية «اليتامى» فريضة شرعية على ولاة الأمور، وليس على «الأوصياء» فقط، ولذلك خص الله أحكام «اليتيمات» بجملة مستقلة فقال تعالى بعد الجملة السابقة:
* «وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ»
ثانيًا:
لقد بدأت سورة النساء بقوله تعالى:
* «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً»
ثم كرر الأمر بـ «التقوى»، مخاطبًا الناس بما اعتادوا قوله:
«وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً»
فقد كان من عادة العرب أن يستعطف أحدهم غيره بقوله «بالله أسألك»، أو «أسألك بالله والرحم».
لقد جاء بهذه المقدمة تمهيدا للوصية بأموال اليتامى والنهي عن أكل حقوقهم، فقال تعالى «الآية ٢»:
* «وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً».
و«اليتيم» هو من مات أبوه، وأصبح تحت رعاية الكفيل، سواء كان فردًا أو مؤسسة، فإذا استغنى عن الكفالة لم يعد «يتيمًا».
وكان من مظاهر ظلم «اليتامى» أن يأخذ الولي مال اليتيم الطيب ويضع مكانه الخبيث من ماله، أو أن يَخلط أموال اليتيم بأمواله وينتفع بها كلها.
ثالثًا:
وبعد النهي عن الاقتراب من مال «اليتامى» إلا بالتي هي أحسن، جاء بمنكر آخر كانوا يباشرونه في الجاهلية مع «اليتيمات»، وهو نكاحهن، لا رغبة فيهن بل في مالهنّ، بل وكانوا يتمنون موتهن فيرثوهن!!
ولذلك نهى الله «الأوصياء» عن الاقتراب من دائرة نكاح «اليتيمات»، خاصة وأن ذلك سيؤثر لا محالة على رعاية «الذكور»، إلا إذا ضمنوا المحافظة على حقوقهم جميعًا.
أما إذا لم يضمنوا تحقق الرعاية الكاملة لـ «اليتامى»، فإن باب نكاح النساء «غير اليتيمات» مفتوح كما نصت «الآية ٣»:
* «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ»
إن «الإقساط» معناه إزالة «القسط»، أي الجَوْر، ويتعلق بدقائق الأمور «المادية» التي يمكن حسابها ووزنها بالعدل، ولذلك ارتبط «القسط» في كثير من الآيات بـ «الميزان».
أما «العدل» فهو إزالة «الظلم»، ويتعلق غالبًا بالحقوق «المعنوية» وأحوال القلوب، يقول الله تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..»
فقوله تعالى «بِالْقِسْطِ» مبالغة في القيام بالشهادة على أتم وأحسن وجه، مع مراعاة ألا يكون لأحوال القلوب، «من بغض وكره»، تأثير على الشهادة بالعدل.
رابعًا:
إن الذين قالوا إن قوله تعالى:
«فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ»
يعني:
«فانكحوا ما طاب لكم من أمهات اليتامى»
هؤلاء قد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بسبب فتوى «رضاع الكبير»، التي يدافع عنها «السلفيّون» كرخصة تسمح للموظف التواجد مع زميلته في العمل في مكتب مغلق بعد أن ترضعه!!
وهؤلاء يقولون إن السبب في زواج «الأوصياء» بأمهات «اليتامى» هو أن يتمكنوا من رعاية أولادهن، فالرجل يدخل على المرأة فتكون «خلوة غير شرعية»، إذن فما الحل؟!
يتزوج أم «اليتامى»، حتى تصبح «الخلوة شرعية»، فجاؤوا بفتوى ألعن من فتوى «رضاع الكبير»، لماذا؟!
لأن هذا معناه أن يتركوا أعمالهم، ويُرسلوا أمهات «اليتامى» للعمل نيابة عنهم، ويجلسوا هم في البيوت لرعاية «اليتامى»!!
١- إن قوله تعالى:
«وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى»
مسألة تتعلق بما كان يحدث لـ «اليتيمات» في الجاهلية، وقد نزلت «الآية ١٢٧» ببيان ذلك.
٢- أما قوله تعالى بعدها:
«فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ»
فهو «إحالة» إلى تشريع جديد يتعلق بعدد النساء المباح للرجل الزواج منهن، ولا علاقة له مطلقا بالجملة الأولى، لأنه يعني:
وإن خفتم ألا تعطوا «يَتَامَى النِّسَاء» حقوقهن كاملة، دون أدنى «جَوْر»، فانكحوا غيرهن من النساء «غير اليتيمات»، مما مالت له نفوسكم واستطابته.
خامسًا:
إن «الآية ٣»، من سورة النساء، لم تأت لتُشرّع أصلا لـ «نكاح النساء»، سواء كن يتيمات أو غير يتيمات، وإنما جاءت لتُقيّد عدد النساء الذي كان مطلقا في الجاهلية، مع اشتراط العدل بينهن.
١- لقد جاء الأمر:
«فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ»
في جواب شرط الخوف من عدم العدل في اليتامى:
«وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى»
فما المناسبة بين الشرط وجوابه؟!
المناسبة أن كلمة «اليتامى» وردت في فعل الشرط، ولكنها قوبلت بكلمة «النساء» في الجواب، فلماذا؟!
لبيان أن المقصود باليتامى «يَتَامَى النِّسَاء» الوارد ذكرهن في «الآية ١٢٧»، وقول الله تعالى عنهن:
«اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ»
٢- ونلاحظ أن السياق عندما تحدث عن نكاح «يَتَامَى النِّسَاء» استخدم لفظ «القسط»، وما هو «مادى»، ويشمل أيضًا عدم الإضرار بـ «اليتامى الذكور»، فقال تعالي:
«وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى»
أما عندما تحدث عن نكاح «النساء»، مطلق النساء، استخدم لفظ «العدل»، لأن القضية هنا تتعلق بأحوال قلوب الرجال والنساء، أي بما هو «معنوي»، فقال تعالى بعدها:
«فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
ولذلك، وكما بيّنت في المنشور السابق، فإن الله يعلم استحالة العدل فيما يتعلق بأحوال القلوب، لذلك قال تعالى:
* «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ»
ولكن المطلوب هو:
* «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ..»
٣- إن قوله تعالى: «فَوَاحِدَةً» إشارة إلى وجوب تقليل عدد النساء في حالة الخوف من «العدل» حتى يقتصروا على الواحدة.
وقوله تعالي: «أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» خير برهان على أن السياق يتحدث عن حاجة الرجال إلى الاستمتاع بالنساء، وليس إلى نكاحهن من أجل رعاية أولادهن!!
سادسًا:
١- لقد جاء بـ «ما»، في قوله تعالى: «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ»، وليس بـ «مَنْ»، لأنه يريد الحديث عن «الصفات»، جنس النساء، وليس عن «الذوات»، عن نساء بعينهن «كأمهات اليتيمات مثلا».
ونلاحظ أم كلمة «النساء» في جملة «مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ» لا علاقة لها مطلقا بـ «يَتَامَى النِّسَاء» الواردة في «الآية ١٢٧»، وقد سبق بيان ذلك عند الحديث عن فعل الشرط وجوابه.
٢- ثم جاء بقرينة أخرى دالة على أن المقصود بـ «مَا طَابَ لَكُمْ» عموم النساء، وأن الذي يخاف من نكاح «اليتامى» ففي غيرهن متسع له:
«مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ»
وعندما يتوجه الخطاب بالعدد إلى أفراد الناس، يكون المعنى أن لكل واحد أن يتخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثًا أو أربعًا، حسب استطاعة كلٌ منهم.
فمنهم من يستطيع أن يتزوج اثنتين، فإذا نظرنا إلى هؤلاء وجدنا نساءهم اثنتين اثنتين، فإذا نظرنا إليهم جميعًا وجدنا نساءهم «مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ».
٣- «ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا»
إن أصل العَوْل الميل «المحسوس»، ثم نقل إلى الميل «المعنوي» وهو «الجَوْر» المحظور المقابل للعدل، وهو المراد هنا، أي أن اختيار الواحدة، أو ملك اليمين، أقرب من الميل المحظور إذا لم يتحقق «العدل».
وأخيرا
إن حكم إباحة تعدد الزوجات حكمٌ مطلقٌ عامٌ، غير مقيد بزمان ولا مكان ولا أقوام ولا حالات، بشرط «القسط» بينهن، وليس «العدل»، لاستحالة «العدل» أصلًا ولو حرص الإنسان.
طبعا كل ما ذكرته سابقا من منشورات عن أحكام «النساء»، ينطلق من قاعدة:
«ما يجب أن يكون»
أما عن قاعدة:
«ما هو كائن»
فمثله مثل أحكام القرآن المعطلة والمهجورة.
محمد السعيد مشتهري