نحو إسلام الرسول

(985) 12/12/2017 القرآن «آية» وليس «رواية»

عندما نتعامل مع «القرآن» باعتباره «كتابًا إلهيًا» كسائر الكتب الإلهية التي سبقته، نكون بذلك قد «ألحدنا» في رسالة الله الخاتمة، وجعلناها تراثًا بشريًا تحكمه «مرويات» رواة الفرق والمذاهب العقدية المختلفة.

هكذا تعامل الدكتور «يوسف زيدان» مع القرآن، استنادًا إلى تراث فرقة أهل السنة والجماعة، وانطلاقًا من «علوم القرآن» التي ابتدعها أئمة السلف، ومن بدعة أن القرآن نزل على سبعة أحرف!!

وياليته التزم بما قاله أئمة السلف عن هذه الأحرف، وإنما ذهب يُفلسفها على هواه، ويدّعي أن المصاحف التي بين أيدي المسلمين اليوم بقراءة حفص عن عاصم فقط، وهو ادعاء باطل.

ويثير قضية اختلاف القراءات حول كلمة «فَتَبَيَّنُوا» الواردة في «الآية ٦» من سورة الحجرات «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا»، وهي قراءة حفص عن عاصم، والتي قرأها حمزة والكسائي وخلَف «فَتَثَبَّتُوا»، وسأضرب مثالا في نهاية المنشور يوضح حقيقة هذه الشبهة.

ثم يتلاعب بمفردات «اللغة العربية»، والتي تحمل أكثر من معنى، ويضيفها إلى مجموعة الشبهات التي يثيرها حول القرآن، ليخرج بنتيجة أن المسلمين لا يعلمون شيئًا عن القرآن، ولا عن أحكامه، وأن هناك قراءات أخرى لا حصر لها، ورسمًا آخر للآيات لم نعلم عنه شيئًا.

ثم يضيف مصيبة لغوية أخرى، ويفتري على القراءات الكذب، ويدعي أن هناك قراءة تقول «الذين يخشون عذاب النير»، أو «النيل» حسب ما نطق، ولا توجد آية مثل هذه في جميع المصاحف، وبجميع القراءات!!

والحقيقة أن هذه المصيبة الفكرية العقدية ليست قاصرة على «يوسف زيدان» وإنما تشمل كل أصحاب بدعة القراءات المعاصرة، الذين يتهم «يوسف زيدان» أحدهم في بداية الفيديو بأن مشروعه الفكري «هوا»!!

أولًا:

لقد بدأ الله سورة البقرة بقوله تعالى:

«الم . ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ»

واسم الإشارة «ذَلِكَ» يشير إلى «البعيد»، لبيان علو منزلة هذا الكتاب، وأنه محفوظ بحفظ الله له، ولن يمسّه أحد بسوء بعد أن وصفه الله بـ «لَا رَيْبَ فِيهِ».

ولكن لماذا عندما نص الله على تعهده بحفظ «الكتاب»، لم يذكر «الكتاب» وإنما ذكر «الذكر»، فقال تعالى:

«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»؟!

لأن الله يريد أن يلفت النظر إلى مسألة في غاية الدقة، وهي العلاقة بين «الذكر» المحفوظ، و«الكتاب» المكتوب، و«القرآن» المقروء.

والسؤال:

هل يُعقل أن يكون المقصود بـ «حفظ» الكتاب الإلهي هو حفظ «الصحف» المكتوبة، فيأتي شخص ويحرق هذه الصحف، ويقول للمسلمين: لماذا لم يحفظ إلهكم كتابه؟!

أو أن يأتي شخص، درس اللغة العربية وعلومها، وأصبح خبيرًا بها أكثر من أهلها، ويؤلف كتابًا اسمه «الفرقان الحق»، يستنسخ فيه جملًا قرآنية، ويخلطها بعقائد ملل أخرى، ثم يقول للمسلمين:

ألم يقل ربكم «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ»، فها أنا قد جئت بـ «مثل» سور القرآن؟!

ثانيًا:

إننا يستحيل أن نثبت تهافت مثل هذه الشبهات، إلا بـ «منهجية علمية» تحمل أدوات لفهم القرآن، مستنبطة من ذات النص القرآني.

وأول قاعدة من قواعد هذه «المنهجية العلمية» قاعدة الإقرار بـ «الوحدانية»، وبفعالية «أسماء الله الحسنى»، الأمر الذي يقتضي تنزيه الله عن كل ما لا يليق بفعالية أسمائه الحسنى.

ومن منطلق هذه القاعدة، نؤمن إيمانًا يقينيًا بفعالية قوله تعالى:

«قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»؟!

ويصبح علينا أن نفهم معنى:

«لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»؟!

إن «الخالق» عز وجل عندما يتحدث عن «المثلية»، فهو سبحانه لا يتحدث عن «مثلية» الكلمات والجمل القرآنية، التي لو نزلت على غير العربي لن يفهمها.

إن أول الطريق لغير العربي، كي يفهم القرآن، هو تعلم «حروف الهجاء»، ثم توضع «الكلمة» أمامه و«صورتها» الموجودة في الواقع الخارجي، ويبدأ المعلم يعلمه كيف ينطق الكلمة.

وعليه، فإن طلب «المثلية» يعني أن يأتوا بـ «الكلمة» و«مُسمّاها»، وهذا ما أفاده قوله تعالى في سورة ص:

«ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ»

لقد وصف الله القرآن بـ «ذِي الذِّكْرِ» باعتبار «الآيات البيّنات» التي يحملها، والتي يستحيل فهم معناها دون سابق معرفة بمقابلها الكوني في الآفاق والأنفس، وهذا ما فهمه «المكذبون»، أهل «اللسان العربي»، فقالوا بعدها «الآية ٨»:

«أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي»

ولقد سمّى الله الآيات القرآنية المنزلة، والتي تلاها الرسول على قومه، «ذِكْراً»، فقال تعالى:

«قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً . رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ»

إن «الآيات المُبَيِّنَات»، في الآفاق والأنفس، لا حصر لها، لو نظرنا إليها بالمفهوم العام لقوله تعالى:

«قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا»

ولذلك ربط الله بين «كلماته» والوحي المنزل، فقال تعالى بعدها:

«قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا»

لذلك يستحيل أن يكون المقصود بقوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ» أن يأتوا بمثل «الجمل القرآنية» من حيث نظمها وبلاغتها، وإنما المقصود أن يأتوا بمُسمَّيات كلماتها التي خَلَقُوها بأيديهم.

ثالثًا:

لا قيمة مطلقا لما يثيره «أهل الشبهات» حول تعدد «القراءات القرآنية» واختلاف بعض الكلمات في المصاحف المتداولة اليوم، لأن الله تعهد بحفظ «الذكر»، بمصاحفه وقراءاته المتعددة.

إن السبب في إثارة الشبهات حول القرآن يرجع إلى ما يُسمى بـ «السند الروائي»، أي نسبة القراءة إلى فلان عن فلان عن فلان.

وإن أقصى ما يمكن أن يتوصل إليه «علم الإسناد»، هو إثبات صحة ما نسبه «الرواة» إلى رسول الله من «قراءات قرآنية».

ولكن الحقيقة التي لا يعلمها «أهل الشبهات»، أن حجية «الدين الإلهي» لا تثبت بصحة النسبة «إلى الرسول»، وإنما بصحة النسبة إلى «الله تعالى»، بعيدا عن كل الشبهات التي يثيرها المكذبون.

وإن صحة النسبة إلى «الله تعالى» تستلزم برهانًا من الله، و«البرهان» على صحة نسبة «القرآن» إلى الله تعالى «آية عقلية» حملتها نصوص هذا «القرآن»، وتفاعلت كلماتها مع مقابلها الكوني.

ولقد شملت صحة النسبة إلى الله تعالى سور القرآن كلها، بداية بسورة «الفاتحة»، وحتى سورة «الناس» وفي جميع المصاحف المتداولة، بما في ذلك اختلاف بعض كلماتها.

إن المؤلفات التي كُتبت في بيان الصور البلاغية التي حملتها هذه الكلمات المختلفة كثيرة جدا، وسأضرب مثالا واحد.

يقول الله تعالى في سورة آل عمران «الآية ١٤٦»، حسب قراءة حفص عن عاصم:

«وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ».

وقرأ قالون وورش عن نافع هذه الآية:

«وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ»، وليس «قَاتَلَ مَعَهُ»

فمن قرأ «قُتِلَ مَعَهُ»، كان قوله تعالى:

«فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مدحا للبقية الذين لم يُقتلوا.

ومن قرأ: «قَاتَلَ مَعَهُ» كان قوله تعالى:

«فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..» مدحا للمقاتلين جميعًا، وكان من قُتل منهم داخلا في المدح، فتكون كلمة «قَاتَلَ» أعم.

أما عن ما أثاره الدكتور «يوسف زيدان» عن الفرق بين القراءتين «فَتَبَيَّنُوا» و«فَتَثَبَّتُوا»، فإن «التثبت» هو الطريق إلى «التبين، ومن لم «يتبين» لم «يتثبت»، فهما متناغمتان.

محمد السعيد مشتهري

https://www.facebook.com/mohamed.moshtohry.1/videos/1553261284755748/

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى