«أمة الآبائية»
في عالم الغيب، وحسب علم الله تعالى، شهد بنو آدم بـ «الوحدانية»، وبإخلاص «العبودية» لله، وعلى هذا فَطَرَ الله الناس، أي خلقهم.
لقد أصبح المولود يولد على فطرة الوحدانية، ويظل عليها حتى تأتي ملة الآباء فتُخفيها، وتظهر هي مكانها!!
ولقد أرسل الله الرسل لإيقاظ وعي الناس وتحريرهم من سجن «الآبائية» ولكنهم اختاروا أن يكونوا أسرى عقائد ومذاهب آبائهم، وأصبح «التدين الوراثي» يشمل الوجود البشري كله!!
لقد كانت منظومة «التدين المذهبي» التي يعيش بداخلها الناس منذ قرون مضت، نتيجة طبيعية للتقليد الأعمى.
ولكن أن تشمل منظومة «التدين المذهبي» أيضًا المسلمين، الذين يحملون طوق نجاة الناس من «فتنة الآبائية»، فإنها مصيبة كبرى.
إن بلوغ الأولاد الرشد، وتحمل مسؤولياتهم كاملة، لا قيمة له عند الله، إذا كانوا أسرى تدين آبائهم، هذا التدين الذي فُرض عليهم فرضًا يوم ولدوا، والذي كان من ثماره على مر الرسالات ما يلي:
أولًا: يقول الله تعالى
* «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ»
– ألم يُحرّف الأبناء رسالات الله، على مر العصور، ولولا تعهد الله بحفظ رسالته الخاتمة، القرآن الكريم، لجعلها المسلمون «روايات»؟!
ثانيًا: يقول الله تعالى
* «وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ»
– فمن أين جاءت «الآبائية» التي يحملها أتباع الفرق والمذاهب العقدية المختلفة، بأن من قال «لا إله إلا الله» سيخرج من النار ويدخل الجنة، بعد أن يقضي عقوبته على ارتكابه الكبائر، والله يقول بعدها:
* «بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»؟!
– أين سنذهب بـ «وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ»؟!
كيف يُصر مسلم على ارتكاب الكبائر فترة حياته، ثم يُخرجه الله من النار لمجرد أنه ورث عن آبائه كلمة «لا إله إلا الله»؟!
ثالثًا: يقول الله تعالى
* «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»
* «وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ»
* «وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً»
* «وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ»
لقد حرّم الله «الشرك»، وحذّر أتباع رسوله محمد من الوقوع فيه:
«..وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ».
فكيف يدخل «الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً» الجنة، إذا ماتوا على حالهم هذا من التفرق في الدين؟!
إن الآبائيين على مر الرسالات، يعتبرون أنفسهم دائما على الحق، لذلك كان من الطبيعي أن يرفضوا الحق الذي جاء به الرسل، وهذه هي الإشكالية والأزمة الكبرى التي يعيش بداخلها المسلمون اليوم:
قناعتهم الذاتية بتدينهم الوراثي، دون أن يعيدوا النظر في مدى صحة هذا التدين، مما كان له أثره الكبير على تدعيم أزمة التخاصم والتكفير بينهم عبر قرون مضت، وإلى يومنا هذا.
رابعًا: يقول الله تعالى
* «وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ»
إنها الفتنة الأكبر والأعظم: الأمة – الإجماع – الكثرة
قد تكون عند البعض فتنة «منطقية»، ولكن عند من لا يعلمون حقيقة «الوحدانية»، ويجهلون معنى قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام:
«إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»
إن المحور الأساس، الذي يدور حوله «دين الإسلام»، هو «الوحدانية» ولقد كانت هذه «الوحدانية» في مقدمة الفرائض الغائبة عن حياة الأمم على مر العصور.
لقد ورث أهل الكتاب عقائد باطلة، وجاء القرآن يصحح لهم ويُبيّن «الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ومما نزل قوله تعالى في سورة المائدة «الآية ١٠٩»:
* «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ»
إنه يوم القيامة، سيجمع الله فيه الرسل جميعًا، ويسألهم عن موقف أقوامهم من دعوتهم، ولا شك أن الرسل يعلمون مدى استجابة أقوامهم لدعوتهم، ولكنهم فوّضوا العلم لله لأنه سبحانه الذي يعلم ما في الصدور.
وهذه الآية برهان قطعي الدلالة على انقطاع أخبار الأمم عن الرسل بعد وفاتهم، ولأن الله يعلم أن أتباع رسوله عيسى سينسبون إليه ما لم يقله، خصه بسؤال، بعد سياق طويل وهام، فقال تعالى:
* «وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ»
* «أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ»
* «قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ»
* «إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ»
* «تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ»
* «إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ»
* «مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ»
* «أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ»
* «وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ»
* «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ»
* «وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»
خامسًا:
لقد ورد فعل «نَزَلَ» ومشتقاته في القرآن بكثرة، وليس من بين مواضعه موضع واحد يفيد أو يشير إلى نزول «عيسى»، بل نجد في نفس سياق الآيات أن الحواريين يطلبون نزول مائدة من السماء:
* «إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ»
* «قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ»
ثم قال تعالى:
* «قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ»
والسؤال:
في هذا السياق الذي بدأ بقوله تعالى يوم القيامة:
* «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ»
ثم في سياق بيان النعم التي أنعم الله بها على عيسى، من «الآية ١١٠»:
«إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ..»
وحتى «الآية ١١٥».
كيف لا يُذّكر الله عيسى بنعمة نزوله آخر الزمان، وهداية الناس على يديه، هذا الحدث العظيم الذي يعتبر علامة يقينية على «الساعة»؟!
إذن فمن أين جاءت «آبائية النصارى»، و«آبائية المسلمين»، و«آبائية المَهْدِيّين»، بأن عيسى سينزل آخر الزمان؟!
الجواب:
إن «أمة الآبائية»، هي «أمة المرويات»!!
محمد السعيد مشتهري