«وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ»
عندما نتدبر سياق الآيات «١٠١- ١٠٣» من سورة النساء، التي وردت فيها رخصة التخفيف من هيئة الصلاة، ومن عدد ركعاتها، نجد أنها وردت في سياق:
أولًا:
معاناة المسلمين من الاستضعاف: «قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ»
ثانيًا:
هجرة المسلمين في سبيل الله: «وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً»
ثالثًا:
قصر الصلاة في حالة الخوف:
١- «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ»
إن الحديث عن «قصر الصلاة» دليل على أن للصلاة هيئة معروفة للمخاطبين، وأن هذه الهيئة، من قيام وركوع وسجود، هي التي حملتها «منظومة التواصل المعرفي»، منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا.
وإلا كيف فهم المخاطبون بهذه الآية معنى «أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ»؟!
٢- إن قوله تعالى «أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ» برهان قطعي الدلالة على أن هيئة الصلاة تتكون من عدد من «الركعات»، وأن «الركعة» تشمل «قيامًا وركوعًا وسجودًا»، وأن القصر يعني نقص عدد هذه الركعات.
٣- لا يؤخذ برخصة «قصر الصلاة» إلا في حالة «الخوف»:
«إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً»
فإذا زال الخوف أقيمت الصلاة تامة كاملة، كما سيأتي في قوله تعالى: «فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ».
رابعًا:
ماذا تعني أداة الشرط «إذا» في سياق الآيات:
١- «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ..»
٢- «وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ..»
٣- «فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ»
٤- «فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ»
٥- «فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ»
عندما تغيب علوم «اللغة العربية»، و«علم السياق» عن متدبر القرآن، فقد سقط في هاوية «الجهل».
يقولون الملحدون المسلمون:
إن هذه الآية تشترط وجود النبي حتى نعمل بأحكامها، وقد مات النبي!!
أقول:
إذن فلنُسقط أداة الشرط «إذا» من الآيات السابقة، ومن القرآن كله!
فمن قال إن رسول الله كان يحضر كل المعارك؟!
ألم يكن هناك أمراء يقومون مقامه في الحروب؟!
لقد جاءت أداة الشرط في هذه الآية لبيان أن الأصل أن تُقام الصلاة جماعة «فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ»، ولما كانت الآية «تشريعية»، فقد خاطب الله رسوله ليُبيّن للمسلمين عمليا كيفية أداء صلاة الخوف.
ولي وقفة تتعلق بوجوب أن تؤدى الصلاة جماعة:
لقد تفرق المسلمون في الدين ولم تعد مساجدهم لله، وإنما للإضرار بوحدة المسلمين، وأصبح لكل فرقة، ولكل مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، مساجدها، ولقد وصف الله هذه المساجد بقوله تعالى:
«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ»
ولذلك لم تعد «صلاة الجماعة» فريضة تُقام في مثل هذه المساجد، لأن الله نهى رسوله أن يقيم الصلاة فيها، فقال تعالى بعدها:
«لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ»
وتقام «صلاة الجماعة» في البيوت المؤمنة المسلمة، وفي أي مكان يمكن أن تقام فيه، فهي لم تسقط كفريضة على كل مؤمن مسلم خلع ثوب المذهبية، واتخذ طريقه «نحو إسلام الرسول».
وتعتبر هذه الآية من عشرات البراهين القرآنية الدالة على:
«وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً»
وعلى أن «المساجد» مخصصة في المقام الأول لـ «إقام الصلاة» بهيئتها التي عُرفها الرسول والذين آمنوا معه، وأقاموها في «المسجد الحرام»، وعرفتها مساجد العالم من بعده إلى يومنا هذا.
خامسًا:
١- المجاز المرسل وإطلاق «الجزء» على «الكل»:
«وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ»
إن قوله تعالى: «فَإِذَا سَجَدُوا» أسلوب بلاغي يُستخدم فيه «الجزء»، الذي هو هيئة «السجود»، ويراد به الكل، الذي هو هيئة «الصلاة» كاملة.
ولقد خص الله «السجود» بالذكر، لأن الحديث عن ظروف معركة، إذا سجد المصلي على الأرض، فلا يرى ما يحدث حوله، لذلك كان لابد من وجود طائفة تحرس الطائفة التي تصلي، وأن تكون أمامها في مواجهة العدو.
وهذا برهان على أن «السجود» في السياق القرآني يستخدم بالمعنى الحسي، وهو وضع الجبهة على الأرض.
٢- عدد ركعات صلاة الخوف «ركعة واحدة»، ونفهم ذلك من السياق، لقوله تعالى:
«وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ…»
إن قوله تعالى «فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ»، يُبيّن أن رسول الله كان يصلي مع كل طائفة «ركعة»، وهذا ما أفادته كلمة «مَعَكَ»، حتى لا تُحرم طائفة من الصلاة جماعة مع رسول الله.
٣- وقد رخص الله للمصلين في حالة وجود أعذار يصعب معها حمل أسلحتهم:
«وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ»
ولكن عليهم أخذ الحذر: «وَخُذُوا حِذْرَكُمْ».
سادسًا:
ولقد أمر الله المصلين أن يذكروا الله عقب كل صلاة، حتى انتهاء الحرب وزوال حالة الخوف:
١- «فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ».
فإذا وضعت الحرب أوزارها فأقيموا الصلاة تامة غير منقوصة:
٢- «فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً».
أي عند زوال الخوف أقيموا الصلاة تامة كاملة في أوقاتها.
والسؤال:
هل هناك عاقل يمكن أن يفهم من الآيات السابقة أنها نزلت لبيان معنى الصلاة، وكيفية أدائها، وعدد الصلوات، وعدد الركعات؟!
أم أنها نزلت تُبيّن كيف يقصر المسلمون الصلاة «التي يعرفونها»، في حالة الخوف أو في ظروف الحرب؟!
ثم هل هناك عاقل يمكن أن يفهم من الآيات السابقة أن معنى «إقام الصلاة» أن يقرأ المسلم بعض آيات الكتاب، ويعمل الصالحات؟!
إن هذا المنشور، بالإضافة إلى عشرات المنشورات السابقة، من «القواصم» التي قصمت ظهر الإلحاد في أحكام القرآن.
لذلك أهديه لأعضاء «منظمة الإلحاد الإسلامي»!!
محمد السعيد مشتهري