كيف تثبت حجية «هيئة الصلاة»؟!
أولًا:
لقد عرفت الشعوب، من لدن آدم عليه السلام، هيئة السجود بمعناه الحسي، وهو وضع الجبهة على الأرض، لقوله تعالي:
* «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ»
* «قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً. وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً. وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً»
ثانيًا:
كما عرفت الشعوب، من لدن آدم عليه السلام، السجود بمعناه المعنوي، وهو:
١- الطاعة والخضوع للسنن الكونية، لقوله تعالى:
* «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ»
* «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ»
* «وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ»
* «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ»
٢- الطاعة والخضوع لأحكام الشريعة الإلهية، لقوله تعالى:
* «وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً..»
وفي هذا السياق يطلب الله من بني إسرائيل التوبة، ومن علاماتها إظهار الطاعة والخضوع لله تعالى «وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ»
* «فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ»
إن الكافرين لا يؤمنون أصلًا بالقرآن ولا بالصلاة، حتى نفهم السجود هنا بمعناه الحسي.
إن الله يطلب من الكافرين الدخول في «دين الإسلام» من باب البرهان على صدق نبوة رسوله محمد، من باب «الآية القرآنية».
فإذا آمنوا بدلائل الوحدانية، وتفاعلها مع نصوص «الآية القرآنية» فإنهم سيقفون أمامها خاضعين خاشعين مؤمنين.
ولذلك بدأ بقوله تعالى «فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»؟!
* «إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»
وهنا تظهر أهمية دراية متدبر القرآن بعلوم «اللغة العربية»، فما محل «ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ» في هذا السياق؟!
الجواب: محله «الرفع على البدل» من «الَّذِينَ آمَنُوا»، أي هم «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ».
والفرق بينهم وبين المنافقين، الذين يُظهرون العمل بأحكام القرآن، أن المؤمنين يقيمون أحكام القرآن وهم في مقام الطاعة والخضوع والتسليم لله تعالى «وَهُمْ رَاكِعُونَ»:
«فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»
* «يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ»
وهنا تظهر أيضا أهمية دراية متدبر القرآن بعلوم «اللغة العربية»، ذلك أن «الواو» تفيد الاشتراك في الفعل، وليس شرطًا ترتيب أدائه، وذلك لحكمة بيانية بلاغية.
إن المتدبر للجزء الأول من الآية:
«يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي»
يعلم أن معناه:
«يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي (لِرَبِّكِ)»
أي أن السياق يتحدث عن إخلاص العبودية لله تعالى، والتوجه بالعبادة لله وحده، مع خضوع القلب وخشوعه، فـ «السجود» هنا بمعنى الطاعة والخضوع.
أما الجزء الثاني:
«وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ»
فيتحدث عن علاقة مريم بـ «المؤمنين» المصلّين، ولذلك لم يقل «وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِات»، لأن «الرَّاكِعِينَ» تشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب، وهي «كناية» عن صلاة «الجماعة»، من باب الإتيان بالجزء وإرادة الكل.
ولذلك يجب أن نفصل بين:
الجملة التي حملت معنى الطاعة والخضوع:
«يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي»
والجملة التي حملت كيفية أداء الصلاة حسب الشريعة التي كانت تتبعها مريم، عليها السلام، وقد تكون قيامًا وركوعًا فقط:
«وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ»
كما قال تعالى عن صلاة داود عليه السلام:
«وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ»
* «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً»
تعبيرا عن سجود التحية
* «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً»
لقد أمر الله ببناء المساجد، وطبعا كان أول المساجد «المسجد الحرام»، فماذا كان يفعل الرسول والذين آمنوا معه في المسجد الحرام؟!
ولكن هذه الآية تتحدث عن المفهوم المعنوي لـ «السجود»، وهو إخلاص العبودية لله تعالى، والطاعة والخضوع له وحده:
«فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً»
ثالثًا:
ولقد أوحى الله للنبي الخاتم محمد، «بغير الوحي القرآني»، بكيفية إقام الصلاة، فجمعت في هيئتها بين القيام، يليه الركوع، ثم السجود.
ولقد أقام المؤمنون الصلاة بهذه الهيئة في المسجد الحرام في حياة النبي، وتواصلت حلقاتها إلى يومنا هذا، دون أن تسقط منها حلقة واحدة، وعلى المكذبين أن يأتوا لنا بالحلقة المفقودة!!
والسؤال:
وهل كان هناك وحي بغير القرآن يتنزل على النبي؟!
نعم، وبرهان ذلك حملته كثير من الآيات، منها قوله تعالى في سورة التحريم:
«وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»
إن المتدبر لسياق الآية يعلم أن هناك أحداثًا وقعت ولم ينزل قرآن ببيانها، وقد أخبر الله رسوله بما وقع بطريقة من طرق الكلام المبيّنة في سورة الشورى، وبرهان ذلك
قوله تعالى:
«فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»
لقد حملت «منظومة التواصل المعرفي» هيئة الصلاة، وأقامها المسلمون جميعًا منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، مع تفرقهم وتخاصمهم وتقاتلهم، وظلت مرجعيتها قائمة في المسجد الحرام:
* «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً»
* «وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ..»
* «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً»
وهنا «كناية» عن قيام الليل بإقام الصلاة، وإطناب في التعبير عن إقام الصلاة، «أي تفصيل بلاغي»، تنويهاً بركني القيام والسجود.
وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى مخاطبًا رسوله:
«إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ..»
إن «هيئة الصلاة»، من قيام وركوع وسجود، التي حملتها «منظومة التواصل المعرفي» لا ينكرها إلا الذين وصفهم الله بقوله تعالى:
«مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»
نعم: إنهم «كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ»
نعم: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»
وليس هذا من باب «الجهر بالسوء من القول»، وإنما من باب وصف الشيء بما وصفه الله به، وهؤلاء حَمَلُوا القرآن وألحدوا في آياته وأحكامه، فلم يحملوه.
إن ما ورد في هذا المنشور مجرد إشارات، تبيّن حجية «هيئة الصلاة»، وكيف أن الله حفظها بحفظه للنص القرآني:
«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ»
وذلك من عصر الرسالة وإلى يومنا هذا.
ومرجعيتنا في ذلك ما يؤديه المسلمون اليوم في «المسجد الحرام» من هيئة للصلاة،
وعددها، وعدد ركعاتها، ومواقيتها.
محمد السعيد مشتهري