«الكناية» وروعة «التعبير» وجمال «التصوير»
إن كلمة «شجرة» في قوله تعالى:
«فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى. فَأَكَلا مِنْهَا..»
هي «الشجرة»، سواء كانت مثمرة أو غير مثمرة، والتي تعرفها شعوب العالم بلغاتها المختلفة.
فإذا قرأ الإنسان كلمة «شجرة» أو سمعها، فإن ذهنه يستدعي على الفور صورتها من مستودع العلوم والمعارف، فيفهم معناها، وتساعده في ذلك «منظومة التواصل المعرفي».
فعندما نقرأ قوله تعالى:
«وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ»
فإن «منظومة التواصل المعرفي» هي التي نقلت لنا أن هذه الشجرة هي شجرة «الزيتون»، ثم أكد الله ذلك بقوله تعالى:
«..الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ»
وهنا نعلم أهمية أن تكون أدوات فهم القرآن مستنبطة من ذات النص القرآن، وبشرط أن نستخدمها «مجتمعة».
ولقد فهمت كلمة «شجرة» بالاستعانة بالأدوات الخمس التي حملها مشروعي
الفكري:
١- «اللسان العربي» الذي حملته مراجع اللغة العربية وعلومها.
٢- «السياق القرآني» والبحث عن الآيات المتعلقة بكلمة «شجرة».
٣- «منظومة التوصل المعرفي» الذي نقلت لنا مكان المنطقة التي تسمى «سيناء»
التي أشارت إليها الآية.
٤- آليات التفكر والتعقل والتدبر..، «آليات عمل القلب»، للربط بين الآيات.
٥- «آيات الآفاق والأنفس»، ووقوف أهل التخصص العلمي عند وصف الله لشجرة «الزيتون» بأنها شجرة «مباركة»:
«شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ»
وعلى أساس ما سبق يكون التعامل مع كل كلمة من كلمات القرآن، حيث تعكس «اللغة العربية» معنى هذه الكلمة النابع من مُسمّاها الذي وُضع لها، والمحفوظ بحفظ الله له خارج القرآن.
هذا عن التعامل مع الكلمة القرآنية بمعناها «الأصلي» الذي وضع لها.
ولقد كان العرب يستخدمون في أساليبهم البيانية الكلمات بغير معناها الأصلي، ونزل القرآن يخاطبهم بأساليبهم ومنها «الكناية».
يقال: كنيت بكذا عن كذا، إذا تركت التصريح به، من «كنّى عن الشيء يكنّى» إذا لم يصرّح به، وسُمّيت «الكناية» بهذا الاسم، لأنها تستر معنى وتُظهر غيره.
أولًا:
ولقد اهتم القرآن اهتمامًا كبيرًا بهذا الأسلوب البياني، خاصة عند الحديث عن العورات، حيث يُكنّي ولا يُصرّح بها، ومن ذلك الكناية عن «الجماع»، ولنضرب بعض الأمثلة:
١- البقرة / ١٨٧
«الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ»
٢- البقرة / ٢٢٣
«نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ»
٣- النساء / ٢١
«وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ»
٤- النساء / ٢٣
«مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ»
٥- النساء / ٢٤
«فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ»
٦- النساء / ٣٤
«وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ»
٧- المائدة / ٦
«أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ»
٨- الأعراف / ١٨٩
«فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً»
٩- التحريم / ١٢
«أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا»
ثانيًا:
كما يُكنى عما يستهجن ذكره، فكنى عنه بمكانه، وهو كناية عن الحدث، جرياً على عادة العرب، فقد كان من أراد قضاء حاجته قصد مكانًا منخفضًا من الأرض وقضى حاجته فيه، فقال تعالى:
١٠- النساء / ٤٣
«أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ»
ونضرب بعض الأمثلة على مسائل أخرى:
١١- النساء / ٧٤
«يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ»
كناية عن المتاجرة، لأن البيع والشراء في التجارة، فحياة الإنسان لها ثمن، إما يشترى بها ما رخص أو ما غلا ثمنه.
١٢- النساء / ٧٧
«وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا»
الفتيل: الغلاف الرقيق جدا الذي بين النواة والتمر، وتسمى «السحاة»، والمعنى أنهم لا ينقصون أبخس الأمور عند الحساب.
١٣- النساء / ٩٠
«حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ»
الحصر: الضيق، وإذا ضاق الصدر اختنق الإنسان، وهي كناية عن الضيق وشدة كراهية الشيء على النفس.
١٤- النساء / ٩١
«كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا»
الرَكْس: رد الشيء مقلوباً، فهم يقحمون أنفسهم في الفتنة كلما أرادوا الخروج منها، وهي كناية عن مرض النفاق الذي في قلوبهم.
ثالثًا:
ثم نضرب مثالا يجمع بعض الأساليب البيانية لمزيد بيان:
١٥- الحج / ٧٢
«وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النّـَارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»
بدأت الآية بأسلوب الشرط «إذا»، وفي هذا دلالة على ارتباط جواب الشرط بفعله، أي كلما سمعوا شيئاً من القرآن، رأينا المنكر في وجوههم.
وهذا ما أكده الفعل المضارع «يُتلى» الدال على تجدد موقفهم من القرآن مع تجدد تلاوته.
ثم جاء بكلمة «عليهم» ليُفهم منها أن هذه الآيات لم تتل إلا من أجلهم، لعلهم يستمعون إليها بشيء من التدبر.
ولم يقل «إذا يتلى عليهم القرآن»، وإنما استخدم جملة «آياتنا بينات» إشارة إلى أن هذا القرآن الذي كفروا به هو في حقيقة الأمر بيّن وواضح، ولكن الذي وقف بينهم وبين هذه الآيات البينات الكفر فكان سبب إعراضهم وتكذيبهم، لذلك قال:
«تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر»
وكان مقتضى الظاهر أن يقول:
«تعرف في وجوههم»
ولكنه جاء بالباعث على التكذيب ليشهد عليهم، وهو الكفر.
فإذا نظرنا إلى سياق الآية بوجه عام وجدناه «كناية» عن امتلاء قلوبهم بالغيظ والغضب عند سماع القرآن، حتى أن آثار ذلك ظهرت على وجوههم.
والسؤال المتكرر:
أي «قرآن» هذا الذي يتبعه الذين يقولون إنه يبين نفسه بنفسه؟!
أي «دين» هذا الذي يتبعه الذين يقولون إنه يبين نفسه بنفسه؟!
أي «إسلام» هذا الذي يتبعه الذين يقولون إنه يبين نفسه بنفسه؟!
ولذلك ليس غريبًا ولا عجيبًا أن ترى العجب والهوس والجهل في منشورات الملحدين في آيات الله.
ليس غريبًا ولا عجيبًا أن ترى من لا يفقه شيئًا في «علم البيان»، ثم يسأل: إذا كان من المحرمات التي نص عليها القرآن:
«وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ»
إذن فما هو «الإثم والبغي بالحق الذي يعتبر حلالا»
طبعا هو لا يعلم أن قوله تعالى في وصف الإثم والبغي:
«بِغَيْرِ الْحَقِّ»
أن هذه «صفة كاشفة»، لأنّ البغي لا يكون إلا «بغير حق».
ليس غريبًا ولا عجيبًا أن ترى من يقولون لم يأتنا نذير وينظرون المهدي لينذرهم، وأمامهم رسول الله يحمل «آيته القرآنية» يدعوهم للدخول في «دين الإسلام»!!
محمد السعيد مشتهري