الاستعارة وبيان بلاغة المعاني القرآنية
إن أساليب البيان التي كانت تنطق بها ألسنة العرب، ونزل القرآن يخاطبهم بها، هي التي أمدت الجملة العربية بالحياة، وبالتأثير البلاغي في النفس، الأمر الذي يشعر به كل متدبر للقرآن.
ومن الأساليب البيانية في القرآن «الاستعارة»، ولها ثلاثة أركان أساسيّة، حملتها هذه الجملة القرآنية:
«وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً»
١- المستعار منه: هو «النار»، ويسمى المشبّه به.
٢- المستعار له: هو «الشيب»، ويسمى المشبّه.
٣- المستعار: هو فعل «اشْتَعَلَ»، وهو اللفظ المنقول بين المشبه والمشبه به.
أولًا:
يقول الله تعالى:
«الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»
١- إن الغاية من إنزال الكتاب الخاتم، القرآن الكريم، هي:
«لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ»
ولقد بدأ الحديث عن الغاية من إنزال الكتاب بـ «لام التعليل»، «لِـ تُخْرِجَ»، لبيان مسؤولية كل مؤمن مسلم نحو تحقيق هذه الغاية، وليس رسول الله فقط.
وجاءت كلمة «الناس»، في هذا السياق، على سبيل «المجاز» لأن الذين سيخرجون من الظلمات إلى النور جزءّ منهم، هم الذين اهتدوا إلى صراط ربهم المستقيم.
٢- وجاءت لفظتا «الظلمات والنور» على سبيل الاستعارة.
فقد استعير الظلمات للكفر والضلال، والنور للإيمان والهدي، وقد حمل اللفظان «الظلمات والنور» ما يُبيّن طبيعة قلب الكافر وكيف يعيش، وطبيعة قلب المؤمن وكيف يعيش.
٣- ومن إحكام نظم الآية أن يأتي السياق بـ «الربوبية» للتعبير عن نعمة إنزال الكتاب رحمة من الله بعباده، فيقول تعالى أن هذا الإنزال «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ»، ولم يقل «بإذننا» حسب ما يقتضيه الضمير في كلمة «أَنزَلْنَاهُ».
٤- ثم يأتي تصوير «دين الإسلام» بمشهد حسي مشاهد تستخدم فيه الاستعارة التصريحية، فقد استعيرت لفظة «صراط» لهذا الدين، ليعلم الناس أن من يتبعه لا يضل طريقه أبدا، لأنه صراط الله «الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».
ثانيًا:
يقول الله تعالى:
«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»
١- بدأت الآية بهذه الاستفهام الإنكاري التوبيخي «أَفَلَا..» الموجه للمنافقين، الذين أعرضوا عن تدبر القرآن والنظر في معانيه وأساليبه البيانية.
٢- جاء فعل «يَتَدَبَّرُونَ» بصيغة المضارع المستمر لبيان أن دراسة وتدبر وفهم نصوص «الآية القرآنية» مسألة دائمة لا يجب أن تنقطع على مر العصور.
٣- ثم يأتي ببيان أن الذين لا يتدبرون القرآن هم أصحاب القلوب المقفلة، ويستخدم في بيان ذلك كلمة «أَمْ» الدالة على الانتقال من ذكر حالهم مع القرآن إلى بيان سبب كفرهم ونفاقهم، فقال تعالى:
«أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»
وأضاف الإقفال إلى القلوب، فهي مصاحبة لها دوما، لبيان شدة قسوتها وإعراضها عن مجرد النظر في القرآن.
٤- وتأتي «الاستعارة» لتكشف بنورها مزيدًا من خصائص القلوب المعرضة عن تدبر القرآن، فهي ليست أقفالًا مادية مثل التي يعرفها الناس، وإنما هي أقفال عقدية، أقفال «الكفر».
وتشير الاستعارة إلى طبيعة هذه القلوب، فالأقفال التي على هذه القلوب، أي الكفر الذي تشربته، عطل عمل آلياتها، آليات التفكر والتعقل والتدبر والنظر، فما فائدة الأبواب إذا كانت مُغلقة بأقفال يستحيل فتحها؟!
هذه فقط مجرد إشارات لإعطاء فكرة عن أسلوب من أساليب علم البيان، وهو «الاستعارة»، للتأكيد على أن اللغة العربية وعلومها هي مفاتيح فهم نصوص الآية القرآنية، واستنباط أحكامها.
محمد السعيد مشتهري