البصيرة نور يستمد قوته من القلب، يقول الله تعالى في سورة الأنعام: “قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا”، فقوله تعالى: “فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا” ليس المقصود به إبصار “العين” وعدم إبصارها، وإنما المقصود نور هداية “القلب” الذي يضيء لصاحبه طريق الحق، لقوله تعالى في سورة الحج: “فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور”. وقوله تعالى: “فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ”، دليل على أن مسئولية البحث عن طريق الحق [من أبصر] مسئولية الإنسان نفسه، ومن ضل عن هذا الطريق [ومن عمي] وزره على نفسه.
وإذا كان “القلب” هو مستودع “البصيرة”، و”البصائر”، فإن إنزال القرآن على “قلب” رسول الله يعني أن “تدبر” هذا القرآن لا يكون إلا بهذه “البصيرة”، قال تعالى في سورة البقرة: “قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ”. وقال تعالى في سورة محمد: “أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”؟! وتُغلق القلوب بالأقفال عندما لا يقوم المرء بتفعيل آليات عملها، وآليات عمل القلب هي: آليات التفكر، والتعقل، والتدبر، والنظر…، وهذه الآليات هي مفتاح “البصيرة”، يقول الله تعالى في سورة الإسراء مبينا أهمية “العلم” القائم على بصيرة القلب [الفؤاد]، ومسئولية الإنسان الشخصية في ذلك: “وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً”.
فهل يُعقل بعد بيان القرآن لهذه الحقائق، أن يترك المسلمون مسئولية “العلم”، وتفعيل آليات عمل قلوبهم، و”بصائر” قلوبهم، يتحملها آباؤهم، وأئمة سلفهم، وشيوخ مذاهبهم؟!! إنه لا توجد أمة تركت هذه المسئوليات يتحملها “سلفها” إلا وكانت في ذيل الحضارة!! لقد ضربت اليابان وألمانيا وكوريا…، المثل في قوة بصيرة وإرادة شعوبها على التغيير نحو مستقبل أفضل، إلى حد أذهل العالم!! لماذا؟! لأن شعوبها تسلحت بـ “العلم”، وبآليات التفكر والتعقل والتدبر والنظر. إن اليابان هي الدولة الوحيدة التي ضُربت بالقنبلة النووية، فاستسلمت في الحرب، ولكنها بعد فترة قصيرة، أصبحت من القوى العظمى في العالم!! لماذا؟! لأن شعبها تسلح بـ “العلم”، وأبصر طريقه، وحدد هدفه، ووضع البرنامج الزمني لتحقيق هذا الهدف.
إن المسلمين يعيشون قرونا من الزمان أسرى “نظرية المؤامرة”، يصرخون ليل نهار: “لقد تآمر العالم علينا، فأصبحنا في ذيل الحضارة”!! فماذا لو أن القنبلة النووية أصابتهم هم، هل كانوا الآن من القوى العظمى، مثل اليابان؟!! إن مصيبة أتباع “الفُرقة والمذهبية” ليست في “التآمر” عليهم، وإنما في أنفسهم!!
* “ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”.