«وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»
مهما بالغ «المؤمن المسلم» في الالتزام بأحكام الشريعة الإلهية، فلا يخلو التزامه من تقصير، لأن الشيطان له بالمرصاد، لذلك كان عليه أن يتأكد من أن إيمانه قائم على إخلاص العبودية لله، ويجاهد نفسه للالتزام بهذه الأحكام على هذا الأساس، خاصة إذا كانت تتعلق بالنهي عن الشهوات المحرمة.
لذلك ختم الله الآية «٣١» من سورة النور بقوله تعالى:
«وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ»
وأعاد توجيه الخطاب إلى المؤمنين «أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ»، مع أن السياق يخاطبهم أصلا:
«قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ… وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ»
لأن الله يريد أن يُبيّن لـ «الذين آمنوا» حقيقتين:
الأولى:
وجوب أن تكون التوبة مصاحبة لالتزامهم بأحكام الشريعة، وأن تكون توبة «نَصُوحاً»، أي صادقة، ينصح الإنسان نفسه ألا يعود إلى معصية الله أبدا، قال تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ..»
الثانية:
أن من مقتضيات «الإيمان» التزام المؤمن بأحكام الشريعة الإلهية، أي أن عدم التزامه بها ينفي عنه صفة «الإيمان»، وبذلك يكون من الذين قالوا آمنا وأسلمنا بأفواههم، ولم تؤمن وتسلم قلوبهم عملًا.
لقد بدأت «سورة النور» بداية حاسمة قاطعة، تتناسب مع ما حملته من تشريعات تحمي المجتمع من السقوط في بحار الشهوات المحرمة، فقال تعالى:
«سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»
ثم قال بعدها:
«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ..»
وبدأت «سورة الأحزاب» بداية حاسمة قاطعة، خاطب الله فيها النبي نفسه فقال له:
«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ»
ثم قال بعدها:
«وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً»
وكما نزلت أحكام «سورة النور» لتحمي المؤمنين من تسرب الشهوات المحرمة إلى قلوبهم، لذلك أغلقت أبواب ومنافذ هذه الشهوات، نجد أن أحكام «سورة الأحزاب» جاءت تلقي الضوء على النظام الحاكم لأحوال المؤمنين الشخصية.
لقد جاءت السورة ببيان حكم «الظِهَار»، وهو أن يحلف الرجل على امرأته أنها عليه كظهر أمه، فتحرم عليه حرمة أمه، وبيّنت حكم «التبني»، ثم بيان أن الولاية العامة للنبي على المؤمنين مقدمة على ولايتهم لأنفسهم، وأن عليهم اعتبار أزواجه في مقام أمهاتهم.
ووضعت السورة الضوابط الحاكمة لـ «المجتمع المؤمن»، ولـ «تصرفات «البيت المؤمن»، و«أخلاقيات المؤمنين والمؤمنات»، ووجه الله الخطاب في هذا السياق لأزواج النبي، يُخيّرْهُنّ بين إرادة متاع الحياة الدنيا وزينتها، وإرادة طاعة الله ورسوله وإيثار الدار الآخرة.
ثم كشف الله عن دور المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين الذين يشيعون في المجالس والنوادي الأخبار الكاذبة، التي تؤدي النبي وأزواجه والمؤمنين والمؤمنات، وذلك بهدف إفساد المنظومة الأخلاقية التي تحكم تصرفات «الذين آمنوا»، فقال تعالى بعدها:
«وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً»
ثم قال تعالى:
«وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً»
وفي هذا الجو المشحون بالضوابط الحاكمة لتصرفات «الذين امنوا»، أمر الله أزواج النبي وبناته ونساء المؤمنين أن «يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ»، فقال تعالى:
«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً»
فإذا أضفنا إلى إدناء الجلباب ما ورد في «سورة النور»، من نهي عن إبداء زينة المرأة لغير محارمها، حسب التفصيل الذي ذكرناه في المنشور السابق، تصبح الحدود التي أمر الله المرأة المؤمنة المسلمة ألا تتعداها، بالنسبة للباس الذي تظهر به أمام الناس جميعا هي:
ألّا يكون «الخمار أو الجلباب»، كاشفًا لما تحته، ولا واصفاً له، ولا لافتًا بألوانه، وما عليه من رسومات وزخرفة.
والسؤال:
ما فائدة كل هذه التشريعات الخاصة بـ «لباس المرأة وزينتها»؟!
لقد أمر الله المؤمنين في «سورة النور» بغض البصر وحفظ الفرج، وبيّن حكمة هذا التشريع فقال:
«ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ»
وأمرهم «في سورة الأحزاب» أن يكون تعاملهم مع أزواج النبي من وراء «حجاب»، وبيّن حكمة هذا التشريع فقال:
«ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ».
وعندما أمر الله المؤمنات بضرب الخمار على «الجيوب»، أضاف إلى فعل الضرب «لام» التأكيد والتشديد، فقال تعالى:
«وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»
ولم يحدث هذا مع غض البصر وحفظ الفرج، فقال «يَغْضُضْنَ»، «وَيَحْفَظْنَ»، دون زيادة اللّام، وذلك لبيان أن «الخمار» لم يكن تشريعًا جديدًا، فقد كانت المرأة تلبسه، وما فعله التشريع الإسلامي أن أمر المؤمنة أن تغطي بـ «خمارها» عنقها وجزءًا من صدرها، وهو ما كانت تظهره من «جيب» جلبابها في الجاهلية.
وعندما رخص الله للقواعد من النساء «اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً»، «أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ»، قال بعدها:
«وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ»
أي «خَيْرٌ لَهُنَّ» الالتزام بلبس «الخمار والجلباب».
وأكرر السؤال:
ماذا تعني كل هذه التشريعات، وكل هذه الضوابط الحاكمة لتصرفات «الذين امنوا»، فيما يتعلق بـ «لباس» المرأة المؤمنة و«زينتها»؟!
إن «الخمار والجلباب» أصلا لباس المرأة العربية، من قبل نزول القرآن، وهو مما دعت الضرورة إليه، حسب ما ورثه العرب عن آبائهم من وجوب أن تستر المرأة جسمها.
ثم نزلت أحكام القرآن تُقر «الخمار والجلباب»، مع بعض التصحيح، وجعلتهما مما دعت الضرورة إلى إظهاره، واعتبرت أن كل ما يلبسه الإنسان ليُغطي به جسمه، «زينة»، سواء كان ثيابه الداخلية أو الساترة لها، أو الجلباب، وهذا ما أفاده قوله تعالى مخاطبا الناس جميعا:
«يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ»
لذلك نهى الله المؤمنات، بهذا النهي المطلق، عن إبداء غير «الخمار والجلباب»، فقال تعالى:
«وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا»
أي إلا ما كان ظاهرا وساترا للجسم بحكم الضرورة، ولذلك لم يقل «إلا ما أظهرنه منها»، لأنه لا يريد أن تتدخل المرأة وتُزيّن خمارها وجلبابها بما يلفت نظر الرجال إليها.
أما بالنسبة لرأس المرأة «الشعر والأذنين، والوجه، والرقبة»، ويديها ورجليها، فقد كانت المرأة العربية تضع على هذه الأعضاء ما يُزيّنها بأنواع مختلفة من الزينة، كالحُلي من الذهب والفضة، قال تعالى:
«وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً»
وما يُستخرج من البحر:
«وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا»
ومن هذه الحلي ما كانت المرأة العربية تلبسه أعلى الكعبين، وهو ما يُعرف إلى يومنا هذا بـ «الخُلْخَال»، فنزل قوله تعالى يخاطب المؤمنات:
«وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ»
وهذه «الزينة» الخفية يسترها «الخمار والجلباب»، ولا تبديها «المرأة المؤمنة» إلا لمن استثناهم الله، وذكرهم في الآية «٣١» من سورة النور.
وإذا كان مفهوم «التزيّن»، لغة وقرآنا، هو جعل الشيء «المُزيّن» حَسنًا أو أكثر حُسنًا، بشيء ليس من أصله، وهذا ما أفاده قوله تعالى:
«إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ»
فالسماء هي الأصل، ثم زيّنها الله بالكواكب.
وجسم الإنسان، مجردا من أي ملابس، هو الأصل، وما نضعه عليه من ثياب، بداية بالداخلية، تزيين له من خارجه، ولا يستمتع برؤية الرجال أو النساء «عرايا»، إلا من هم مثلهم، ممن انتقلوا من المرتبة الإنسانية إلى المرتبة الحيوانية.
والسؤال:
لماذا تُصر المرأة «المؤمنة المسلمة» على إظهار زينتها ومفاتنها لغير محارمها؟!
محمد السعيد مشتهري