كيف صور القرآن من يعرضون عن تدبر آياته؟!
أولا:
يقول الله تعالى:
«وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»
تُبيّن الآية حال من يُتلى عليه القرآن، فإذا به يُعرض عنه مستكبرًا، وكأنه لم يسمع شيئًا.
ومجيء الكلمة «تُتْلَى» في صيغة «المضارع» يعني أن التولي عن سماع الآيات يتكرر وقوعه.
ومجيء الكلمة «تُتْلَى» في صيغة «المبني للمجهول» يعني أن التولي والاستكبار لم يكن بسبب كراهية الشخص «المعلوم» الذي يتلو الآيات، وإنما بسبب الآيات ذاتها بصرف النظر عمن يتلوها.
ولقد جاءت «الآيَات» مضافة إلى الله «آيَاتُنَا»، ولم يقل «الآيَات»، كما وردت في سياق آخر «نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ»، لبيان أن الاستكبار كان عن «آيات» دالة على «الوحدانية» دلالة قطعية دون أدنى شبهة.
لذلك جاء بعدها ببيان سبب الاستكبار بـ «تشبيه» بليغ يُبيّن أن انعدام السمع كان لوجود مانع من وصول الآيات إليه، فقال تعالى:
«كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً»
و«الوقر» هو «الثقل»، ويستخدم بمعنى «الصمم» الذي يصيب الأذن، وقد أكد ذلك بتكرار التشبيه «كَأَن .. كَأَنَّ ..».
فمرة انعدام السمع مع سلامة آلته: «كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا»، وهنا لم تأت «كَأَن» مشددة.
ومرة انعدام السمع مع مرض آلة السمع:
«كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً»
وهنا أتت «كَأَنَّ» مشددة لبيان ثقل «الوقر» في أذنيه.
ثم يختم الآية بأسلوب بلاغي «تهكمي» فقال تعالى:
«فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»
وهل «البشرى» تكون بالعذاب؟!
إنها «إستعارة» تهكمية، للحط من قدر هذا المستكبر، وبيان مصيره في الآخرة.
إن «التشبيه»، و«الإستعارة»..، وغيرهما من «الأساليب البيانية»، يكثر استخدامها في السياق القرآني، ولكن أكثر المسلمين لا يعلمون!!
والسؤال:
ماذا يفعل المسلمون اليوم عند سماعهم القرآن، وهم في بيوتهم أو في أي مكان آخر؟!
الجواب:
كأنهم لم يسمعوه، كأن في آذانهم وقرا.
ثانيًا:
يقول الله تعالى:
«فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ. فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ. بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً»
وهذا نوع آخر من الإعراض، إعراض عن كل ما فيه ذكرى لهم، وفي مقدمته
«القرآن»، فكيف يُعرضون عن شيء فيه هدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور؟!
لذلك كان مناسبا أن يبدأ بصيغة التعجب «فَمَا لَهُمْ»:
فَمَا لَهُمْ – عَنِ التَّذْكِرَةِ – مُعْرِضِينَ؟!
١- ولقد جاءت «مُعْرِضِينَ» بصيغة الحال لبيان تأصل الإعراض في قلوبهم، ودوامهم عليه.
٢- ثم «شَبّه» إعراضهم بفرار الحُمُر النافرة مما يُنفّرها، فقال تعالي:
«كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ. فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ»
* الحُمُر: جمع حمار، والمقصود الحمار الوحش
* النفر:
سرعة السير، وجاءت هنا بمعنى فرار الحُمُر إذا أحسسن بما يرهبنه.
* مستنفرة:
عندما تدخل السين والتاء على الفعل يكون ذلك عند إرادة المبالغة في وصف شيء.
* قَسْوَرَةٍ:
استخدم السياق هذه اللفظة دون أن يُصرح باسم هذا الشيء الذي تفر منه «الحُمُر»، كالأسد مثلا، لأنه أراد بيان الدلالات التي تحملها هذه اللفظة من القسر والقهر والغلبة، فضلاً عما فيها من «إيقاع» يزيد من هيبته في النفس هيبةً.
فانظر وتأمل هذا المشهد الذي يصور المعرضين عن سماع القرآن وتدبر آياته، وهم يفرّون بسرعة وهم في حالة ذعر، كما تفر الحُمُر بأقصى سرعة هربا من الذي يريد صيدها.
٣- لماذا شُبه القوم في إعراضهم عن القرآن بـ «الحُمُر» دون غيرها من الحيوانات؟!
لبيان ما وصل إليه القوم من الجهل والغباء، كما ضرب لذلك المثل بقوله تعالى:
«مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»
والسؤال:
مَنْ مِنَ المسلمين عندما يقرأ القرآن أو يسمعه، يهتم بالمفهوم الحقيقي لمعنى «التدبر»، ويعيش مع المشاهد التي تصورها الآيات، ومع مقابلها الكوني، يراها شاخصة تتحرك أمامه؟!
ثم يسألون:
لماذا لا نشعر بخشوع قلوبنا وبكائها؟!
محمد السعيد مشتهري