نحو إسلام الرسول

(935) 27/10/2017 كيف نتعامل مع القرآن (41)

«فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا»

لقد بدأت الآيات «الإسراء ٢٣-٢٤» بالأمر بـ «الوحدانية»:

«وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ»

وثنى بالأمر بـ «بر الوالدين»:

«وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً»

وقدم «وَبِالْوَالِدَيْنِ» على «إِحْسَاناً»، ولم يقل «إحسانًا بالوالدين»، لبيان عظم هذا الأمر.

وجاءت كلمة «إحسانًا» نكرة، لأن في «التنكير» دلالة على التعظيم، وفي ذلك إشارة إلى وجوب الإحسان إلى الوالدين إحساناً عظيماً كاملاً.

والسبب:

أنهما فعلا هذا «الإحسان» معك وأنت صغير، لا حول لك ولا قوة.

أولا:

«إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا»

لفظ «إما» مركب من كلمتين: «إن»، و«ما».

وكلمة «إن» شرطية، وكلمة «ما» تأتي أيضاً للشرط، كقوله تعالى:

«وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ»

إذن فلماذا جاء بالشرطين؟!

لإفادة تأكيد «الشرط»، وما يجب على الأولاد فعله عند بلوغ الوالدين الكبر.

لماذا جاءت كلمة «عندك» في قوله تعالى:

«إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا»

هل إذا حُذفت هذه الكلمة لن نفهم الجملة:

«إِمَّا يَبْلُغَنَّ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا»؟!

لا شك أننا سنفهم المقصود، ولكن ستغيب عنا حكمة القصد.

إن الأولاد مسؤولون عن رعاية الوالدين، خاصة عندما يتقدم بهما العمر، وهذه المسؤولية يصعب الالتزام بها إلا في مجتمع «الإيمان والعمل الصالح»، مجتمع الأسر المؤمنة المسلمة، التي لا تعمل ولا تعيش خارج «حدود الله» وأحكام شريعته.

إن مجتمع «الإيمان والعمل الصالح» يقوم على قواعد تضمن لأفراده معيشة كريمة، يسعدون بها في الدنيا والآخرة، ومنذ غاب هذا المجتمع عن حياة المسلمين، وجدنا الأبناء يعيشون في عالم، والوالدان في عالم آخر!!

لقد أصبح أيسر شيء اليوم أن يضع الابن والديه أو أحدهما في دار المسنين، وقد لا يعلم بوفاته إلا بعد يوم أو يومين!!

من أجل ذلك جاءت كلمة «عِنْدَكَ» في سياقها البياني البلاغي، وفي إطار صيغ الخطاب المباشر:

«رَبُّكَ» – «لا تَقُلْ» – «لا تَنْهَرْهُمَا» – «قُلْ لَهُمَا» – «اخْفِضْ» – «قُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا».

ثانيا:

«فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً»

«الأف» إظهار الضجر وعدم الرضى.

و«النهر» استقبال الكلام بزجر، والرد بقسوة.

إن النهي عن «نهر» الوالدين يدل عليه النهي عن قول «أف»، لأنه إذا نهى عن الأدنى كان ذلك نهياً عن الأعلى بجهة الأولى، فلماذا جمع بينهما؟!

لأن في «التأفف» إظهارًا فقط لعدم الرضى، أما «الانتهار»، فهو استقبال كلام الوالدين بالتعنيف والكلام القاسي.

لذلك كان على الأولاد مخاطبة الوالدين من مقام التعظيم والاحترام.

ثالثا:

«وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ»

وهنا يأتي «علم البيان» لتأخذ الكناية دورها في التعبير عن المبالغة في التواضع والخضوع، «قولا وفعلا»، كما يأخذ الطير أفراخه تحت جناحيه رحمة بهما.

وهل للذل جناح يمكن رفعه وخفضه؟!

إذن فهذا أسلوب من الأساليب البلاغية، «استعارة»، يقصد به المبالغة في التواضع، وكأن الولد يضم الوالدين إلى صدره، وفي «حضنه»، كما فعلا معه في صغره.

رابعا:

انظر وتدبر المقابلة بين «الْكِبَرَ»، في قوله تعالى:

«إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا»

و«الصغر» في قوله تعالى:

«وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً»

انظر إلى المشهدين باعتبارهما حقيقة تشاهدها أمامك، وهما يشتركان في رسم صورة «الضعف» التي يكون عليها «الصغير» في صغره، والكبير في شيخوخته.

هنا تظهر أهمية «علم البيان»، الذي هو القاعدة التي تنطلق منها نصوص «الآية القرآنية» فتلمس قلوب المؤمنين المسلمين بنورها.

هنا تظهر أهمية «علم البيان»، في تجسيد المشاهد القرآنية أمامنا، وما تحمله من صور حسية حية، تجعل المؤمنين:

«يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً»

هنا تظهر أهمية «علم البيان»، وما يحمله من صور حية تحدث خلال فترة تربية الأطفال، ويجب أن تظل حاضرة في أذهانهم، حتى لا تقسو قلوبهم عند الكبر، وتنتزع منها الرحمة.

وإذا كنتم قد قدّمتم الرعاية لأولادك في شبابكم، فمن الذي سيقدمها لكم في شيخوختكم، في زمن ضاع فيه «المؤمنون»، ولم يبق إلا «المسلمون» الذين لم يدخل «الإيمان» قلوبهم؟!

إنها مأساة «الفريضة الغائبة»، مأساة غياب مجتمعات «الإيمان والعمل الصالح»، مأساة غياب البيوت «المؤمنة المسلمة».

إن القلوب التي أعطت ظهرها لعلوم «اللغة العربية»، وخاصة «علم البيان»، قلوب «ميتة»، «قاسية»، «جاهلة»، «ضالة»، «مضلة»، يحرم أن يؤخذ منها فهم لـ «دين الإسلام».

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى