«المسجد الحرام» وحجية «الصلوات الخمس»
لقد قصدت بـ «المقدمات» التي حملتها المنشورات السابقة، والخاصة بحجية الصلوات الخمس، أن تكون من باب ما يُسمى بـ «العصف الذهني»، فكان من المفترض أن يتدبر الأصدقاء ما جاء فيها، ثم يقومون بالإجابة على الأسئلة التي حملتها، حتى إذا جئت اليوم بخلاصة القول، كانوا على علم بما أقول.
أولا:
إن مفهوم «الصلاة» وهيئتها وعددها وعدد ركعاتها ومواقيتها..، كل هذا لم يثبت بأدلة قرآنية، وإنما بإشارات نفهم منها أن ما تناقلته الأجيال عبر «منظومة التواصل المعرفي»، منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، هو البرهان الوحيد على حجيتها.
مثال: عندما يرد اسم صلاتين «الفجر والعشاء» صراحة، و«الظهر» ضمنا، في سياق يربطها بأوقات العورات الثلاث، فهذا ليس دليلا على أن عدد الصلوات ثلاث، لأن السياق سياق خبري وليس تشريعيًا، وقد بيّنا ذلك في المنشور السابق.
لذلك، فإن ما أستند إليه في هذا المنشور من إشارات قرآنية، تتعلق بموضوع الصلوات الخمس، ليس هو البرهان على حجيتها، وإنما هذا البرهان موجود أصلا خارج القرآن، وهو ما أسميه في مشروعي الفكري بـ «منظومة التواصل المعرفي»، التي حفظ الله خلالها «مسمّيات» كلماته، وإلا لأصبح القرآن «أعجميّا» للناس أجمعين.
إن «منظومة التواصل المعرفي» مصطلح انفرد به مشروعي الفكري، وهو المحور الأساس الذي تدور حوله أدوات فهمي للقرآن، ولا علاقة له مطلقا بما اصطلح السلف والخلف على تسميته بـ «التواتر العملي»، والموضوع مفصّل في كتابي «المدخل الفطري إلى الوحدانية».
ثانيا:
إن الآيات التي حملت أمرًا بإقام الصلاة، وكانت تتعلق ببيان مواقيتها، هي قول الله تعالى في سورة هود:
«وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ»
وقوله تعالى في سورة الإسراء:
«أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً»
١- إنه لا يوجد في القرآن بيان ولا تفصيل لمعنى العلامات الفلكية التي وردت في هاتين الآيتين، ولا التي وردت في الآيات التي حملها البوست المرفق، إذن فمن أي المصادر المعرفية يعلم المسلمون مواقيت هذه الصلوات المفروضة؟!
٢- عندما نتحدث عن «النبوة» فإننا نتحدث عن وسيلة تنقل إلى النبي مراد الله خلال فترة «النبوة»، ويستحيل أن يأمر الله رسوله بإقامة الصلاة في مواقيت محددة، ثم يأمره والذين آمنوا معه بالمحافظة عليها، دون أن يبيّنها لهم.
٣- ومما لا شك فيه، أن النبي والذين آمنوا معه أقاموا هذه الصلاة في المسجد الحرام، وفي المسجد النبوي، وفي مساجد أخرى، وفي المواقيت التي ذكرها الله في هذه الآيات.
فإذا قلنا إن المصلين كانوا وقتها بالمئات، وكانوا يُحافظون على أداء هذه الصلوات الخمس يوميا في المسجدين: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، وأيضا في مساجد أخرى، بدليل أن الله منع النبي أن يصلي في مسجد أقامه المنافقون في المدينة للإضرار برسالته وبمقاصدها العليا، فقال تعالى له:
«لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ»
لقد تعلم الأبناء «الأصول العامة» لهذه الصلاة وأحكامها بـ «المحاكاة»، وليس من المصحف ولا من الكتب، حتى أصبحت هذه «المحاكاة» تشكل «منظومة معرفية» متصلة الحلقات إلى يومنا هذا، وليست «تواترًا عمليًا مذهبيًا»، قد أضاف كل مذهب فقهي إلى «الأصول العامة للصلاة» ما ليس منها، والموضوع مفصّل في الحلقتين الثالثة والرابعة من برنامج «نحو إسلام الرسول».
ثالثا:
إن الآية الثالثة التي حملت أمرًا يتعلق بالصلاة، هي قوله تعالى:
«حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ»
وهنا يجب أن أبيّن قاعدة خاصة بـ «واو العطف»:
إن الأصل في «واو العطف» أنها تفيد المغايرة، والمغايرة تعني أنّ ما بعد «الواو» غير ما قبلها، وقد يكون ذلك:
١- تغاير في الذات:
كما تقول: «دخل علي وإبراهيم»، فإن ذات «عليّ» غير ذات «إبراهيم»، وإن اشتركا في ذات اسمها «الجنس البشري».
٢- تغاير في الصفات:
كما في قوله تعالى: «تِلْكَ آيَاتُ القُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ»
إن «القرآن» هو «الكتاب»، وجاء العطف لبيان تغاير صفتهما، أي هو «كتاب»، وهو «قرآن»، فالأول غير الثاني من جهة الصفة، وليس من جهة الذات.
لذلك فإن الذين يقولون إن القرآن شيء والكتاب شيء، هؤلاء لا يفقهون شيئًا في اللغة العربية، ويشهد القرآن على جهلهم، حيث يقول تعالى في وصف آياته المكتوبة والمقروءة:
«تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ»
«تِلْكَ آيَاتُ القُرْآنِ وَكِتَابٌ مُبِينُ»
إن العطف هنا يدل على تغاير صفة «الكتاب» عن صفة «القرآن»، لا على تغاير «القرآن» عن «الكتاب»، وهذا دليل على أن الآيات المنزلة ستكتب فور نزولها، وأنها ستُقرأ حيث كانت مكتوبة، وأنها ستُدوّن كلها في الصحف قبل وفاة النبي.
والآن تعالوا نطبق قاعدة «واو العطف» بالنسبة لقوله تعالى:
«حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ»
لقد جاءت صفة «الوسطية» لصلاة غير الصلوات التي قبلها، وإن اشتركت الصلوات كلها في وجوب المحافظة عليها، لذلك علينا أن نعلم:
* أن الأمر بالمحافظة على الصلوات، جاء لصلوات معروفة للمخاطبين، ولا شك أنهم أقاموها وحافظوا عليها، وحفظها الله بحفظه لذات النص القرآني، وإلا فما فائدة أن يحفظ الله كلمات القرآن، دون أن يحفظ مسمّاها ومقابلها الكوني الموجود خارجه؟!
* أن أَقلَّ الجمع ثلاثة، لذلك فإن «الصَّلَوَات» التي أمر الله المحافظة عليها، لا تقل عن ثلاث، وهنا تأتي «الصَّلاة الْوُسْطَى» مرجحة للعدد الذي يجب أن يُضاف إلى الصلوات الثلاث لتصبح وسطا بينها، وأقلّه اثنان قبلها واثنان بعدها، ليصبح عدد الصلوات خمس.
* إن قوله تعالى: «وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ»
هو أمر بأن يقوم المسلم إلى الصلاة وهو في حالة خضوع وخشوع، وهذا القيام «أي الوقوف» هو الركن الأول في هيئة الصلاة، يتبعه الركوع، ثم السجود، كما بيّنت الآيات القرآنية، ونقلته «منظومة التواصل المعرفي».
رابعا:
يستحيل أن نفهم كتاب الله، دون أن يُطبع في قلوبنا المقابل الكوني لمُسمّيات كلماته، وهذه المُسمّيات لن نجدها في مراجع اللغة العربية، ولا في كتب التفسير، وإنما على أرض الواقع.
لذلك فإن المرجعية الأولى والأخيرة، الحاكمة على كل المرجعيات، هو ما حدث ويحدث في «المسجد الحرام»، ويتعلق بفريضتي الصلاة والحج، منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، والذي حملته «منظومة التواصل المعرفي» للمسلمين، حسب الشروط الخاصة بها.
ويعلم المتدبر لكتاب الله، مدى «التناغم» المشاهد بين ما أخبرنا الله به من شعائر ومناسك تتعلق بفريضتي الصلاة والحج، وما يحدث فعلا على أرض الواقع في «المسجد الحرام».
إن الذين يفترون على الله الكذب، ويقولون إن الله لم يفرض «هيئة» للصلاة، من قيام وركوع وسجود، أو إن الله لم يفرض غير «صلاتين»، أو «ثلاثة»..، أو إن «المساجد» لا تعني أماكن للصلوات..، أو إن «الكعبة» صنمٌ يعبد من دون الله..، هؤلاء الذين «يُلحدون في الآيات القرآنية» لا يؤخذ منهم لا دين ولا دنيا، لأنهم فقدوا عقولهم.
محمد السعيد مشتهري