لم يكتفوا بـ «ضلالهم»، و«يُضلّون» الآخرين؟!
إذا سألك سائل ما الفرق بين الآية «٢٢» من سورة هود:
«لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ»
والآية «١٠٩» من سورة النحل:
«لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ»
فماذا تقول؟!
وإذا كان الفرق في الكلمتين «الأَخْسَرُونَ»، و«الْخَاسِرُونَ»، فلماذا تغيرت صيغة الكلمتين مع تماثل تركيب الآيتين؟!
هنا يجب الاستعانة بعلوم «اللغة العربية»، وبعلم «السياق»، للإجابة على السؤال:
لماذا تغيرت صياغة الكلمتين؟!
لقد جاءت كلمة «الأَخْسَرُونَ» بصيغة «أفعل التَّفضيل»، وجاءت كلمة «الْخَاسِرُونَ»، بصيغة «اسم الفاعل».
فتعالوا نتدبر السياق الذي وردت فيه الآية الأولى:
«لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ»
لنقف على الحكمة من الإتيان بصيغة أفعل التَّفضيل «أخسر»، وليس بصيغة «اسم الفاعل» «خاسر»؟!
ولنبدأ بقوله تعالى «الآية ١٧» وما بعدها:
«أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ … وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً … الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً … أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ … يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ … أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ ..»
أولًا:
نلاحظ أن الحديث عن قوم لم يكتفوا بضلالهم وافترائهم الكذب على الله، وخسران أنفسهم..، وإنما ذهبوا يصدّون غيرهم عن سبيل الله، فكان جزاؤهم ضعف العذاب، «يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ»، لذلك جاء بصيغة أفعل التَّفضيل «الأَخْسَرُونَ».
ثانيًا:
كما نلاحظ بعد قوله تعالى «أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ..» في نفس السياق، ورود كلمة «أَظْلَمُ»، وهي من صيغ أفعل التفضيل، تُبيّن «المفاضلة» بين «الظالم» لنفسه، و«الأظلم»، فناسب ذلك استخدام صيغة أفعل التَّفضيل «أَخْسَر» لتناسب «أَظْلَم».
ثالثًا:
ولماذا لم يقل الله تعالى:
«لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ الأَخْسَرُونَ»
وقال تعالى:
«لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ (هُمُ) الأَخْسَرُونَ»
إن ضمير «هم» في هذا السياق، يُسمى «ضمير فصل»، ويفيد القصر، وأضيف إلى سياق الآية لبيان أن هؤلاء قد بلغوا ما لم يبلغه أحد من الخسارة، وكأنّ خسائر العالم قاصرة عليهم!!
والدرس المستفاد:
أن الإنسان لو «خسر» الدنيا، لا يجب أن «يخسر» معها الآخرة، لأنه لو خسر الاثنين، فذلك هو «الخسران المبين»، فتدبر:
«خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ»
إن «خسران» الدنيا متقطع، وقد لا يدوم، أما «خسران» الآخرة لا انقطاع له!!
فاحذروا يا أتباع الفرق والمذاهب العقدية المختلفة:
* فأنتم لم تكتفوا بضلالكم وانحرافكم عن صراط الله المستقيم، وتفرقكم في الدين.
* ولم تتركوا أولادكم أحرارًا، حتى إذا بلغوا الرشد اختاروا تدينهم بإرادتهم.
* ولكنكم فرضتم عليهم «عقائدكم» المذهبية.
* فساروا معكم في مسيرة «التفرق في الدين».
* فحق عليهم وعليكم قوله تعالى:
«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»
أما إذا ذهبنا إلى السياق الذي وردت فيه «الآية ١٠٩» من سورة النحل:
«لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ»
وتدبرنا الآيات من قوله تعالى «الآية ١٠٤»:
«إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ … إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ … مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ … اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ … طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ … وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ … لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ»
أولًا:
وجدناها تتحدث عن ضلال الكافرين، دون أن يضيفوا إلى ضلالهم إضلال غيرهم، لذلك لم يستحقوا مضاعفة العذاب كما هو حالهم في سياق الآية «٢٢» من سورة هود.
ثانيًا:
كما أنه لم يقع في سياق هذه الآية تفاضل بين شيئين أو تفاوت، وتكرر استخدام «اسم الفاعل»:
«الْكَاذِبُون» – الْكَافِرِون» – «الْغَافِلُون»
فناسب ذلك أن يأتي باسم الفاعل «الْخَاسِرُونَ»، ولم يستخدم صيغة أفعل التفضيل «الأَخْسَرُونَ».
إذن فلابد من تصحيح فهمنا لقوله تعالى:
«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ»
ولقوله تعالي:
«وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً»
فكتاب الله لم يُبيّن «مُسمّيات» كلماته، و«مقابلها الكوني»، هو أمر يُسقط القول بأن «القرآن يُبيّن نفسه بنفسه»، فهل حمل الكتاب صورًا تُبيّن معنى الكلمة «الاسم والفعل والحرف»؟!
وكتاب الله لا يحمل دروسًا في «اللغة العربية» وعلومها، وهو أمر يُسقط القول بأن «القرآن يُبيّن نفسه بنفسه»، وبرهان ذلك الموضوعات التي ننشرها من «علم البيان».
محمد السعيد مشتهري