في برامج «التنمية البشرية»، و«البرمجة اللغوية العصبية»، ينصحون الناس أن يخلعوا همومهم وماضيهم، وما حمله من ذنوب ومعاصي وكبائر..، ويقذفوا بها وراء ظهورهم، ويبدؤوا حياتهم بصفحة جديدة، كيوم ولدتهم أمهاتهم.
ولا شك أن هذا من باب الصحة النفسية والعصبية صحيح.
فإذا اعتبرنا «الفيس بوك» محطة تلفزيونية عالمية تعرض قنواتها برامج فكرية في مجالات العلوم المختلفة، وذهبنا نشاهد قناة «الفكر الإسلامي»، فإننا نجد أنفسنا أمام مصيبة فكرية كبرى، لا تقل عن مصيبة الموت، بل هي الموت بعينه.
«وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ»
إن الذين أصابتهم مصيبة الموت، «فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ»، من أئمة سلف الفرق الإسلامية المختلفة، قد دخلوا قبورهم، ورحلوا إلى عالم آخر، وحسابهم عند الله.
فلماذا يُخرجهم المسلمون من قبورهم، ويضعون أجسادهم أمامهم على مائدة «الجرح والتعديل»؟!
إننا نرى «السلفيّين» وهم يترحَّمُون عليهم، ويبكون على فراقهم، فقد كانوا نور هداية «أتباع الفرقة» التي ينتمون إليها.
ونرى غير «السلفيّين»، من أصحاب وأتباع التوجهات القرآنية والعصرية والمستنيرة، يُقطِّعونهم قطعًا صغيرة، ويُمسكون بكل قطعة ويقولون:
هذه تمثل كتب التفسير، ويقومون بحرقها … «تكبير».
وهذه تمثل كتب الحديث، ويقومون بحرقها … «تكبير».
وهذه تمثل كتب الفقه، ويقومون بحرقها … «تكبير».
مشاهد «داعشية قرآنية عصرية تنويرية» تُعرض على محطة التلفزيون العالمية، الفيس بوك، «قناة الفكر الإسلامي»، بنسبة مشاهدة وإعجاب تفوق القنوات كلها!!
والسؤال:
إن «الباب الوحيد» للدخول في «دين الإسلام» هو باب «الآية القرآنية»، وليس باب «الإسلام الوراثي» المذهبي، إسلام «الأموات».
فلماذا لم يخلع المسلمون ثوب «تراث الأموات الديني»، ويقذفون به وراء ظهورهم، كما يقذفون همومهم، وينسون الماضي، من أجل صحتهم النفسية والعصبية، كما توصي بذلك برامج «التنمية البشرية»؟!
لماذا تُصرّون على محاسبة «الأموات» بعد موتهم، وحسابهم عند الله في الآخرة، إلا إذا كنتم «أمواتًا» تجلسون معهم، والذي نراه أمامنا على الشاشة بثًا مباشرًا من داخل قبورهم؟!
لماذا لم يخلع المسلمون تراث أئمة مذاهبهم «الأموات»، وظلوا يعيشون قرونًا من الزمن معهم داخل «قبورهم»، ولم يبدؤوا حياتهم الإسلامية بصفحة جديدة، ولم يدخلوا «دين الإسلام» من باب «الآية القرآنية»؟!
لذلك فإن المسلمين، بجميع توجهاتهم الدينية، سيحشرون وهم يحملون معهم «إسلامهم الوراثي»، ولا يغرنك ما يرفعونه من رايات السلفية أو القرآنية أو العصرية..، فكلهم لم يدخلوا «دين الإسلام» من بابه الصحيح: باب «الآية القرآنية».
إن أخطر شيء على ملة «الوحدانية» أن يدخل الناس «دين الإسلام» من باب «الشرك بالله»، وهم يحسبون أنهم «مسلمون»، وبرهان ذلك هو كل ما يقولونه ويكتبونه على قناة «الفكر الإسلامي – الفيس بوك»!!
إن أخطر شيء على ملة «الوحدانية» أن يترك «المفكرون الإسلاميون» قضية «دين الإسلام» الرئيسة وهي:
«كيف يكون الإنسان مسلمًا»؟!
ويُحدّثون الناس عن كل شيء يمكن أن نتخيله، إلا أن يدعوا المسلمين إلى إعادة الدخول في «دين الإسلام» من بابه الصحيح!!
إن الفرق بين رسالة النبي الخاتم، ورسالات الرسل السابقين، لا يمكن أن نتصوره أو نُعبّر عنه بكلمات.
إن رسول الله محمد، عليه السلام، لم يحمل للناس آيات حسية تراها الأعين، وإنما حمل «آية قرآنية عقلية» تراها القلوب، بآليات التفكر والتعقل والتدبر.
وعندما تكون «الآية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، يحملها ذات الكتاب الذي أنزله الله عليه، ولا «نبوة» ولا «كتاب» بعده، فهذا معناه أن هذا «الكتاب» هو «الرسول» القائم بين الناس، ويحمل «الآية» الدالة على صدق نبوته.
لذلك لا فرق بين الذين دخلوا في «دين الإسلام» في حياة النبي، والذين دخلوا بعد وفاته، لأن باب الدخول في هذا الدين واحد، وهو الإقرار بصحة نسبة «الآية القرآنية» إلى الله تعالى.
وعليه، فقد كان من مقتضيات الفهم الصحيح لـ «الوحدانية»، ولصدق «النبوة» الخاتمة، أن يربي الجيل الأول من المسلمين أولادهم على الفهم الواعي لمعنى «الآية القرآنية»، وأن الإقرار بصحة نسبتها إلى الله تعالى هو الشرط الأساس للدخول في «دين الإسلام».
فإذا بلغ الأولاد الرشد، كانوا قادرين على الدخول في «دين الإسلام» من باب الصحيح، وما كانت «الآبائية المذهبية» أن توقعهم في ظلمات «الشرك» و«التفرق في الدين».
وعندما يدخل الناس في «دين الإسلام» من باب «الآية القرآنية»، فإن هذا يقتضي أن تكون للقرآن «قراءة معاصرة» تحافظ على خيرية «الأمة الإسلامية» على مر العصور.
وإن «القراءة المعاصرة» لنصوص «الآية القرآنية» يستحيل أن تقوم على أنقاض تراث «الأموات» الديني، ولا على ما صح من مرويات فرقة من الفرق، بدعوى أنها توافق القرآن!!
إن كل القراءات القرآنية، بكل توجهاتها الدينية المختلفة، انطلقت من قاعدة «الإسلام الوراثي المذهبي»، الذي ينتمي إليه أتباع كل فرقة من الفرق الإسلامية!!
ولا توجد قراءة واحدة تدعو أتباع الفرقة، التي ينتمي إليها صاحب القراءة، إلى إعادة الدخول في الإسلام من باب «الآية القرآنية»، وإلى تحمل مسؤولية الشهادة على الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما أمرهم الله تعالى.
فأين هو هذا الذي حمل مشروعه الفكري دعوة الناس إلى «القراءة القرآنية المعاصرة»، باعتبارها من مقتضيات الدخول في «دين الإسلام» من بابه الصحيح؟!
إن «القراءة القرآنية المعاصرة» يستحيل أن تنشغل بنقد ونقض تراث عالم «الأموات»، بعد أن دفنته «الآية القرآنية» مع أصحابه في مقابرهم!!
إن احتفاظ الأمم بتراثها «العلمي»، يختلف عن احتفاظها بتراثها «الديني»، فـ «دين الإسلام» لم يكن في يوم من الأيام تراثًا دينيًا، وإنما «آية قرآنية» متجددة العطاء إلى يوم الدين، فتدبر:
«وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ … ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا..»
إنه لا يوجد على وجه هذه الأرض «كتاب إلهي» يحمل البرهان على صحة نسبته إلى الله تعالى غير «كتاب الله الخاتم»، الذي حمل في ذاته «الآية القرآنية»، الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد:
«فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ»
«إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ»
«لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ»
إن «دين الإسلام» دين «الأحياء»، الذين كانوا «أمواتًا» يعيشون في مقابر الشرك والكفر والجهل:
«أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»
إن «نصوص الآية القرآنية» لا تنذر إلا من كان «حيًا»، وقد أنذرت «الأموات» قبل موتهم، وهي تنذر اليوم «الأحياء»:
«.. إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ»
فلماذا تُخرجون «الأموات» من قبورهم لتقدّسونهم، أو لتحاسبونهم، وتُصرّون على أن تراثهم الديني الموجود في مكتباتكم الإسلامية، مصدر تشريعي إلهي يُحل ويُحرم؟!
ألا تعلمون أنكم كلما فتحتم مقبرة من مقابر أصحاب هذا التراث الديني، انفتح معها باب من أبواب إبليس، ليُصدّكم عن العودة إلى «إسلام الرسول»؟!
فادفنوا موتاكم يرحمكم الله
محمد السعيد مشتهري