وقفات مع «مظاهر الإلحاد» الدالة على «الذكاء الديني»
«ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ»
إن مواقف الكافرين من «نبوة» الرسل واحدٌ على مر الرسالات، وهو الطعن والتشكيك في «النبوات»، بإثارة الشبهات حول ما حملته للناس من أحكام الشريعة الإلهية.
أولًا:
إننا نعرف بـ «الشمس» بداية ونهاية الليل والنهار، ولا نعرف بها شيئًا عن حركة الشهور الميلادية، أما «القمر» فإذا نظرت إليه تعرف ما إذا كنت في أول الشهر العربي، أم في منتصفه، أم في آخره.
إن «السَّنة الشمسية» فهي الفترة الزمنية التي تدور الشمس فيها دورة تامة، وهي تزيد عن «السَّنة القمرية»، فالسَّنة الشمسية «٣٦٥» يوم، وبعض يوم، والسنة القمرية «٣٥٤» يوم تقريبا، ولقد كان الناس يُجمعون هذه الزيادة، فإذا كانت شهرًا، جعلوا تلك السَّنة «ثلاثة عشر شهراً».
وإن «السَّنة» عند العرب عبارة عن اثني عشر شهرًا من «الشهور القمرية» القائمة على «منظومة الأهلة»، قال تعالى:
«يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ»
فعندما يقول الله تعالى عن عدة الشهور إنها «اثْنَا عَشَرَ شَهْراً» فهذا معناه أن ذلك العدد واجبٌ متقررٌ في «علم الله» إلى يوم الدين، وعليه، فمن يحاول أن يضع نظامًا يجعل عدة «الشهور القمرية» تزيد شهرًا أو تنقص شهرًا، فقد افترى على الله الكذب.
والسؤال:
هل كان الله لا يعلم، أن «السَّنة القمرية» تنقص عن «السَّنة الشمسية»، وأن ذلك سيترتب عليه عدم تطابق «الشهور القمرية» مع فصول السّنَة؟!
لا شك أن الله يعلم، «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» أن الله يعلم!!
لذلك ذهبوا يفترون على الله الكذب، قديما وحديثا، فابتدعوا بدعة «النسيء»، وبدعة «التقويم»، ليجعلوا «الصوم»، و«الحج» في مواسم ثابتة توافق مصالحهم الدنيوية.
ثانيًا:
لقد علم العرب في الجاهلية أنهم لو رتّبوا مصالحهم على السنة القمرية فهذا يعني أن «الحج» سيأتي تارة في الصيف، وتارة في الشتاء، وهذا أمرٌ شاقٌ عليهم، ويفقدهم تجارات كان أصحابها لا يناسبهم السفر في هذه الأوقات، لذلك وافقوا على «النسيء».
فـ «النسيء» ليس هو «الشهر» الذي كانوا يؤخرونه، لأنه ليس منطقيًا أن يكون «الشهر» نفسه كافراً، وإنما المراد «المصدر»، أي عملية «الإنساء»، أي التأخير، أي أن «الزيادة في الكفر» كانت بسبب التلاعب بالأشهر تقديمًا وتأخيرًا.
والسؤال:
هل كان الله تعالى لا يعلم، أن عدم تطابق أشهر «السنة القمرية» مع فصول «السنة الشمسية»، هو السبب الرئيس في ظهور بدعة «النسيء» والعمل بها في الجاهلية؟!
لا شك أنه سبحانه يعلم.
وهل كان الله لا يعلم، أنه سيأتي اليوم الذي يقول فيه الناس، إن إقامة أحكام الصيام والحج على منظومة «الشهور القمرية» يُخل بمصالحهم الدنيوية، وأن إقامتها على منظومة «الشهور الميلادية» يُفيد مصالحهم الدنيوية؟!
لا شك أنه سبحانه يعلم.
إذن فلماذا جعل الله أحكام شريعته تدور مع فصول «السنة الميلادية»، ولا تكون ثابتة على فصول معينة؟!
«أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»
وطبعا عبدة «النسيء» و«التقويم»، لا يعلمون ما يعلمه الله، لذلك جعلوا من أنفسهم آلهة، يشاركون الله في حكمه، ويقولون إن تطابق «الشهور القمرية» مع فصول «السنة الميلادية» هو الذي فيه مصالح البلاد والعباد؟!
إن هناك من «يزرع» حسب التقويم القبطي، حيث تكون الفصول ثابتة، لأنه قائم على التقويم الشمسي، ولكن الله شاءت حكمته أن تكون أحكام الشريعة مرتبطة بـ «السَّنة القمرية»، وليس «الشمسية»، فقال تعالى:
«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً… مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ..»
فيأتي شهر «رمضان» في يناير، وفي فبراير، وفي مارس..، إلى اخر شهور «السنة الميلادية»:
«أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى» – «فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»
ثالثًا:
لقد نزل القرآن يُبيّن للناس أن الحج «أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ»، أي أن هذه الأشهر كانت معلومة للعرب وقت نزول القرآن، «بعيدًا عن بدعة النسيء» وكانت هذه الأشهر تأتي مرة في الشتاء وأخرى في الصيف، وهذا أمر طبيعي لوجود فرق بين السنة الشمسية والقمرية.
ولذلك عندما يقول الله تعالى عن «الشهور القمرية»:
«ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»
فإن اسم الإشارة «ذَلِكَ» عائد إلى «عِدَّةَ الشُّهُورِ» وفيها «أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ»، أي أن «الدِّين الْقَيِّم» يكمن في عدم التلاعب في هذه الشهور، كما كان يفعل العرب في الجاهلية، حتى لا تصبح «العدة» «ثلاثة عشر شهرًا».
ولا يمكننا فهم كلمة «الدِّين»، في هذا السياق، إلا بالنظر إلى المضاف إليها وهو كلمة «الْقَيِّمُ»، فمثلا عندما يقول الله تعالى:
«مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ»
نفهم أن «الدِّين» هنا بمعنى «القانون» و«النظام».
فإذا علمنا أن كلمة «الْقَيِّم» تعني «الشيء القائم الدائم الذي لا يزول»، نفهم أن معنى «الدِّين الْقَيِّم»، في سياق الحديث عن عدة الشهور، هو:
«النظام الدقيق الذي قامت عليه عدة الشهور العربية، والقائم بين الناس إلى يوم الدين، والذي يحرم التلاعب به».
وعندما يقول الله بعدها: «فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ»
فإن الضمير في قوله: «فِيهِنَّ» عائد إلى أقرب مذكور وهو «مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ»، وإلا لقال تعالى «فيها»، أي في عدة الشهور، إذن فـ «الأشهر الحرم» محفوظة بحفظ الله لذات النص القرآني الذي يقول «ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ».
والسؤال:
كيف يسمح الله تعالى، بعد نزول هذه الآيات، لشيطان من شياطين الإنس أو الجن، بالتلاعب في مواقيت «الأشهر الحرم»، التي تأتي صيفًا وشتاءً، ليعود الناس مرة أخرى إلى ظلم أنفسهم:
«فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ»؟!
إذن فمن المستفيد من هذه «البحوث العشوائية» التي يقوم بها عبدة «النسيء» وعبدة «التقويم»، وما قيمة هذه القوائم وهذه الحسابات التي شغلوا بها أنفسهم، وقد آتاها الباطل من بين يديها ومن خلفها، بشهادتهم هم أنفسهم؟!
رابعًا:
إن الله تعالى لم يُحرّم «النسيء» من أول يوم بعث فيه رسوله محمدًا، وإنما كان ذلك بعد أن عادت دورة «الشهور القمرية» إلى مكانها الصحيح، ولا شك أن الله قد بيّن ذلك لرسوله، وأنزل قرآنًا يُتلى إلى يوم الدين بتحريم «النسيء»، فقال تعالى:
«(إِنَّ) عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ … مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ … (إِنَّمَا) النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا..»
ويعلم أهل «اللغة العربية» ماذا يعني افتتاح الكلام بحرف التوكيد «إِنَّ»، حيث يلفت الله أذهان الناس إلى شيء هام سيُتلى عليهم.
والسؤال:
إذا كان التلاعب بمواقيت «الشهور القمرية» أمرًا مباحًا، حسب ما تقتضيه مصالح الناس، وحسب ما يتوافق مع فصول «الشهور الميلادية».
إذن فلماذا لم يترك الله «الأشهر الحرم» يختارها المسلمون حسب ما تقتضيه مصالحهم، وإنما حدّد أسماءها تحديدًا، وورثها العرب من لدن إبراهيم وحتى بعثة النبي الخاتم محمد، وكانوا يقدّسونها في جاهليتهم، وإلا ما ابتدعوا بدعة «النسيء»:
«لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ»؟!
لقد كان العرب متمسكين بقدسية وحرمة «الأشهر الحرم» المعلومة لهم بـ «الاسم»، إلا أنهم ظنّوا «كما يظن عبدة التقويم اليوم» أن المطلوب أي «أربعة أشهر» في السَّنة، وليس شرطًا تلك التي عرفوها بأسمائها، فكانت النتيجة:
«فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ» – «زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ» – «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ».
لقد كان ظنهم، وتلاعبهم بمواقيت «الشهور القمرية»، سبب كفرهم، فماذا يريد عبدة «النسيء» و«التقويم» اليوم!!
خامسًا:
عندما لا يعلم «المسلمون» أن «الإسلام» دين إلهي واحد، وأن إصرارهم على الانتماء إلى الفرق الإسلامية التي وُلدوا فيها وتربوا على مائدة تراثها الديني، «شرك بالله تعالى»، فكان يجب عليهم على الأقل أن يكونوا منطقيّين مع أنفسهم.
هناك شيء في أصول «البحث العلمي» اسمه «الادعاء»، فكل باحث يستطيع أن يدعي في بحثه ما شاء، فإذا أثبت صحة ادعائه بالبراهين العلمية كان «عالمًا» بما كتب، ويُقبل بحثه، وإذا لم يثبت كان «جاهلًا» ويُرفض بحثه.
وعندما يكون البحث متعلقًا بـ «القرآن وأحكامه»، هذا القرآن الذي يحمله المسلمون جميعًا، مع تفرقهم وتخاصمهم وتقاتلهم، ويؤمنون أنه «كلام الله»، إذن يجب أن يحدد الباحث من هم «المسلمون» الذين يخاطبهم؟!
فهل يخاطب المسلمين جميعًا، وفي هذه الحالة يجب أن تشمل قائمة المراجع التي يعتمد عليها في بحثه مراجع الفرق والمذاهب العقدية المختلفة.
أم يخاطب أتباع الفرقة التي ينتمي إليها، وفي هذه الحالة يجب أن تشمل قائمة المراجع التي يعتمد عليها في بحثه مراجع المذاهب العقدية والفقهية المختلفة التي تنتمي إلى فرقته.
ثم يجب أن يكون «عنوان البحث» مختصرًا ومعبرًا عن الرسالة التي يريد الباحث إيصالها للقارئ، حتى لا يتشتت وهو يقرأ موضوعات البحث.
وعليه أقول:
كان يجب أن يكون عنوان بحث «الدكتور عبد الرحمن قدور» على النحو التالي:
«شـهر رمضـان بيـن الثبـات والـدوران – رؤية علمية على مذهب أهل السنة والجماعة»
وذلك باعتبار أن جميع المراجع التي استند إليها في بحثه هي مراجع فرقة «أهل السنة والجماعة».
ولكن، ومع أنه حدد المخاطبين، إلا أن هناك إشكالية أكبر تُسقط بحثه من الناحية العلمية، وهي قوله في مقدمة بحثه:
«اتبعت في بحثي الطريقة الاستقرائية لوقائع التاريخ المثبتة والموثقة بشكل صحيح في كتاب الله»
فإذا به لا يذكر في بحثه إلا «ثلاث آيات»، منها «آيتان» تتعلق بغزوتين، والثالثة للرد على بدعة «النسيء»، وقد بيّنت تهافت توظيفه لهذه الآيات في المنشور السابق.
ولكن الأهم، ومن منطلق أصول البحث العلمي، فهناك سؤال سيفرض نفسه، وهو أول سؤال تسأله أي «لجنة علمية» يريد الباحث أن تُقيّم له بحثه، وهو:
أين «الآيات القرآنية» المثبتة لما يُعرف عند أهل العلم بـ «صلب البحث»؟!
فعلي سبيل المثال، أين «الآيات القرآنية»، التي نصت صراحة على ما يلي:
١- أن شهور «السنة القمرية»، يجب أن تطابق فصول «السنة الشمسية»؟!
٢- أن «القرآن» نزل للعرب خاصة، حسب ظروف بيئتهم المناخية، وطبيعة فصول «السنة الشمسية»، وليس للعالم أجمع بظروف بلاده المناخية المختلفة؟!
٣- أن فصول «السنة الشمسية» ثابتة على ظهر الكرة الأرضية، لا تتغير، ولا تختلف من قارة إلى أخرى، ولا من بلد إلى آخر، وأن «المسلم» الذي اقتضت ظروف عمله أن يعيش في «غواصة» في أعماق المحيطات، لا صلاة عليه ولا صوم؟!
٤- أن هناك «شياطين الإنس» سيظهرون ويتلاعبون بأشهر «السنة القمرية» بدعوى مطابقتها بفصول «السنة الشمسية»، فإذا ظهروا فعلى المسلمين أن يمسكوهم في البيوت حتى يتوفاهم الموت، ويقومون بإعادة الأشهر إلى وضعها الطبيعي باستخدام بدعة «التقويم»؟!
والسؤال الأخير لعبدة «النسيء»، و«التقويم»:
هل أمسكتم بهؤلاء الشياطين، الذين تلاعبوا في «النسيء»، أو «التقويم»، وعرفتم في أي «عصر» ظهروا، وما هي «أسماؤهم»؟!
محمد السعيد مشتهري