للفائدة العامة
طلب مني الصديق فواز الاصبحي الإجابة على سؤال الصديق جمال الصعدي الموجود على حسابه، وهو:
«لماذا الأشهر الحرم مفرقة والمفترض أن تكون متتابعة، لماذا لا تكون رمضان، والقعدة، والحجة ومحرم»؟!
وبعد حوار طويل مع بعض أصدقائه، يرجع إليه على حسابه، وبيان «المنهجية العلمية» التي اتبعها في حواري مع الأصدقاء، وأنه لابد أولا من تحديد معنى المصطلحات المستخدمة في الحوار، مع الإقرار بحجية «المصدر المعرفي» الذي جئنا منه بمعاني هذه المصطلحات، وإلا فلا منطق في إجراء الحوار أصلا، أعاد الصديق عمار العبسي نفس السؤال بصيغة أخرى فقال:
«فاذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين …هل نفهم من هذه الآية أن الأشهر الحرم متتابعة أم لا»؟!
قلت:
«الحقيقة أنا لا أستطيع استكمال أي حوار لا يقوم على منهجية علمية، وأول الطريق هو تحديد المصطلحات، فعندما يقول الله (الحج أشهر معلومات) لا يصح (مطلقا) الحديث عن (الحج وأحكامه) إلا بعد الإقرار بحجية (المصدر المعرفي) الذي علم المخاطبون عن طريقه أسماء هذه الأشهر المعلومات، وهل هناك في القرآن آية تخبرنا بأن أشهر الحج المعلومات هي الأشهر الحرم؟! فإذا أقر المتحاوران بوجود مصدر معرفي خارج القرآن، وأنه هو الحاكم أولا وأخيرا على فهمنا للآيات واستنباط أحكامها، هنا يبدأ الحوار على أساس علمي، بعد تحديد مفهوم المصطلحات التي يستخدمها المتحاوران، ويسهل علينا فهم معنى فإذا انسلخ الأشهر الحرم»
فقال «عمار العبسي»:
«نعم إني أقر وأعترف أنه يوجد مصدر معرفي من خارج القرءان وهو (العُرف)، وما (اعتاد عليه الناس)، فالأشهر الحرم لم تذكر في الكتاب، وإنما كان القول عامًا بوجود أشهر حرم من ضمن شهور العام، فكلنا نريد أن نتعلم، ونأخذ من الذين هم أكثر معرفة منا ومنهم، فأرجو أن أتلقى إجابة على سؤالي»
أولًا:
لقد قلت في تعليقي السابق هذه الجمل:
* «إلا بعد الإقرار (بحجية) المصدر المعرفي الذي تعلم المخاطبون منه أسماء هذه الأشهر المعلومات»
* «فإذا أقر المتحاوران بوجود مصدر معرفي خارج القرآن، وأنه هو الحاكم أولًا وأخيرًا على فهمنا للآيات واستنباط أحكامها، هنا يبدأ الحوار على أساس علمي»
ولم ينتبه «عمار العبسي» إلى كلمة «حجية»، وإلى قولي عن «حجية» المصدر المعرفي:
«وأنه هو الحاكم أولًا وأخيرًا على فهمنا للآيات واستنباط أحكامها»
ثانيًا:
متى كانت «الأعراف»، وما «اعتاد عليه الناس»، حجة في دين الله، حاكمة على فهم أحكام شريعته؟!
أليس «المصدر الثاني للتشريع»، الذي حمل «دينًا جديدًا» لم يأذن به الله، مما «عرفه» أتباع الفرق والمذاهب المختلفة، و«اعتادوا عليه»، بل وقدّسوه قرونًا من الزمن وقاتلوا في سبيله؟!
إن العرف «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ»، والمعروف «يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ»، هو ما عرفه المسلمون وتعلّموه من كتاب الله، وليس مما تعارفوا عليه حسب هواهم واعتادوا عليه!!
ولذلك لم أتخذ «أعراف» الناس، ولا ما «اعتادوا عليه»، حجة في مشروعي الفكري، وإنما اتخذت ما يشهد القرآن بوجوب ابتاعه كمصدر معرفي يستحيل فهم القرآن واستنباط أحكامه بمعزل عنه، وهو ما سمّيته بـ «منظومة التواصل المعرفي».
ولا علاقة مطلقا بين «منظومة التواصل المعرفي» وبين ما يُسمّى «المصدر الثاني للتشريع»، ولا بما يُسمّى «التواتر العملي»، وبيان ذلك مُفصل في كتابي «المدخل الفطري إلى الوحدانية»، وفي الحلقتين الثالثة والرابعة من برنامج «نحو إسلام الرسول» على موقعي.
ثالثًا:
يقول الله تعالى، الآية «٣٦» من سورة التوبة:
«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ … مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»
وهذه «الأشهر الحرم الأربعة»، غير المتتابعة، هي الأشهر ذات «الحُرمة الأبدية»، وهي:
«ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب»
ولقد ورث العرب في جاهليتهم حُرمة هذه الأشهر وكانوا يُعظّمونها ويُحرّمون القتال فيها، باعتبارها من ميراث أبيهم إبراهيم، عليه السلام، ولعظم هذه الحرمة كانوا يحتالون عليها من أجل مكاسب ومصالح دنيوية!!
لقد كانت معيشة العرب تقوم على الحروب والغارات وقطع الطريق..، الأمر الذي اضطرهم إلى ما يُعرف بـ «النسيء»، حيث يعتبرون الشهر «الحرام» حلالًا ليبيحوا لأنفسهم فيه القتال!!
ولقد بَيّن الله للناس أن ما كان يفعله العرب في الجاهلية باطلٌ ومحرمٌ، وأن هذا العصر قد انتهى، ونزل القرآن يعيد كل شيء إلى مكانه الصحيح، فقال تعالى:
«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ … مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»
ثم انظر وتدبر ماذا قال الله بعدها مباشرة، للرد على المشركين الذين كانوا يتلاعبون بحرمة «الأشهر الحرم»، والذين ما زالوا يتلاعبون بها إلى يومنا هذا:
«إِنَّمَا النَّسِيءُ (زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ (فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ) زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي (الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)»
ولقد نشرت دراسة كاملة بعنوان «بدعة النسيء وشريعة الجاهلية الأولى» للرد على مشركي اليوم، لمن يريد الوقوف على أدلتها القرآنية.
رابعًا:
يقول الله تعالى، الآية «٢» من نفس سورة التوبة:
«بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ»
وبعدها قال تعالى:
«وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ»
ثم قال تعالى:
«فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ»
والسؤال:
هل هناك علاقة بين هذه المعاهدة التي مدتها «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» التي أعلنها رسول الله يوم «الْحَجِّ الأَكْبَرِ»، والتي إذا انتهت مدتها يُباح للمسلمين قتال المشركين، وبين قوله تعالى في «الآية ٣٦» من نفس السورة:
«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ … مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»؟!
أقول: لا علاقة مطلقًا بين الموضوعين.
إن حرمة القتال في الأشهر الأربعة التي وردت في الآية «٣٦» من سورة التوبة، «حُرمة أبدية»، أما حرمة القتال في الآية «٢» من نفس السورة فحرمة «مؤقتة» تتعلق بمعاهدة بين رسول الله والمشركين لقوله تعالى:
«بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ»
«فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ»
فإذا انتهت «المهلة» المحددة لهذه المعاهدة حلَّ قتال المشركين:
«فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ»
خامسًا:
لقد بدأت «مهلة» الأربعة أشهر يوم الإعلان عنها، وذلك يوم عرفة، يوم «الْحَجِّ الأَكْبَرِ»، في «العاشر» من ذي الحجة:
«وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ»
فإذا أضفنا إلى هذا اليوم مدة هذه المهلة «الأربعة أشهر»، كان عندنا:
* «عشرون يومًا من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشرة أيام من ربيع الآخر»
وهذه ليست كلها من «الأشهر الحرم»، ذات «الحرمة الأبدية».
وعندما نتدبر القرآن نجد أن تحديد المهلة بـ «أربعة أشهر»، وليس أقل أو أكثر، مسألة تتعلق بعلم الله وحكمته «الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»، فمثلا نجد أن مدة إيلاء الرجل من زوجه «أربعة أشهر»، وعدة المتوفى عنها زوجها «أربعة أشهر وعشر».
ولعل الحكمة من ذلك أن تكون المدة كافية للتشاور وتقليب وجوه النظر فيما يحتاج إلى نظر ودراسة، من أجل اتخاذ قرار سليم حكيم، ولعلها أيضا الحكمة أن جعل الله الأشهر ذات الحرمة الدائمة أربعة.
إنه لا يوجد في كتاب الله دليل واحد يفيد أن الأشهر «المعلومات»، التي كان يعلمها العرب قبل نزول القرآن، ويعلمون أسماءها، والمتعلقة بفريضة الحج، «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ»، هي «أربعة أشهر».
وهذه الآية تعتبر من مئات الآيات المثبتة لحجية «منظومة التواصل المعرفي»، بدلالة كلمة واحدة فقط وهي «مَعْلُومَاتٌ».
والسؤال:
معلومات لمن؟!
لـ «المخاطبين» بهذه الآية في المقام الأول، فهم الذين كانوا يعيشون في عصر التنزيل، ويعلمون هذه الأشهر المعلومات وأسماءها، وهم الذين أخذنا عنهم البيان العملي لما أجمله القرآن من «أحكام الحج»، مناسك وشعائر.
وهذا ليس «تواترًا» عمليًا «مذهبيا»، وإنما «تواصلًا» معرفيًا «أمميًا»
محمد السعيد مشتهري