لقد بعث الله رسوله محمدًا وقد عمت بلوى «الاسترقاق» الأمم، وكانت تجارة «الرق» تُمثل الدخل الرئيس لمعظم الشعوب، وكانت منابعه:
الأسر في الحروب، والتخطّف في الغارات وقطع الطريق، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهُمْ، والرهائن والتداين.
لقد بعث الله رسوله محمدًا و«الرق» مؤسسة عالمية تجارية لها جذورها التاريخية، وتعاملت معه كل الحضارات والثقافات، لذلك كان يستحيل أن ينزل القرآن بإلغائه مرة واحدة.
لقد نزلت الآيات القرآنية تتعامل مع هذا الواقع من منطلق «مرحلية التشريع»، إلى أن استقر المسلمون في مجتمعهم وقويت شوكتهم، فأغلقت منابعه وفتحت مصارفه، باستثناء «أسرى الحروب»، فقد كان من الضروري في هذه «المرحلة الانتقالية» معاملة العدو المحارب بالمثل.
أولا:
لقد سمّى الله أسرى الحروب «ملك يمين»، فقال تعالى:
«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ..»
فـ «الفيء»: هو ما غنمه المسلمون من العدوّ بغير قتال، لقوله تعالى:
«وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ… مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ …»
وهذه الآية برهان على أن «الأسر» كان الباب الوحيد لـ «ملك اليمين» الذي ظل مفتوحًا «مؤقتا»، بعد أغلقت كافة الأبواب الأخرى بالتزام المؤمنين بـ «دستور الأخلاق» الذي نزلت الآيات تأمرهم العمل به.
ثانيا:
يقول الله تعالى في سياق بيان المحرمات من النساء:
«وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
وكلمة «الْمُحْصَنَاتُ» في هذا السياق تعني النساء «المتزوجات» ويكون المعنى:
وحرّمت عليكم «المتزوجات»، ثم استثنى منهن «مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»، أي وحرّمت عليكم «المتزوجات» إلا من طرأ عليهن «المِلك»
وإنما يطرأ «المِلك» على المرأة «المتزوجة» إذا وقعت في «الأسر»، حتى ولو كانت «زوج» مَلِك من الملوك.
ثالثا:
هذا كان واقع منظومة «الاسترقاق» التي عمت شعوب العالم من قبل بعثة رسول الله محمد، وقد سمّى الله هذا «الاسترقاق» بـ «ملك اليمين» الذي ورد ذكره في كثير من الآيات، وكان ذلك قبل إغلاق بابه نهائيًا بنزول الأحكام المتعلقة بـ «أسرى الحروب»، وقوله تعالى:
«فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا..»
* «فَضَرْبَ الرِّقَابِ»:
يراد بـ «الرقاب» الأسرى «مجازًا»، وذلك من باب إطلاق اسم الجزء على الكل، أي إطلاق اسم «الرقبة» على «الأسير».
* «فَشُدُّوا الْوَثَاقَ»:
كناية عن الأسر، و«ملك اليمين»، ونحن نرى إلى يومنا القيود تُشد بها أيدي الأسرى.
* «فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً»:
أي إما تمّنون عليهم وتُطلقون سراحهم، وإما تُخلّصونهم من الأسر بعوض مالي، أو بتبادل الأسرى.
وبذلك يكون «دين الإسلام» قد أنهى «ملك اليمين» كلية، وأغلق جميع منابعه، ثم تتدرج في التعامل مع «آثاره» وواقعه الذي كان موجودا في معظم بيوت المسلمين، وأمر بـ «فك الرقاب».
يفهم مما سبق أن قوله تعالى مخاطبًا رسوله محمدًا:
«وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ»
كان قبل نزول «أحكام الأسرى» وإغلاق باب «الاسترقاق»
والسؤال:
لماذا سُمّيت منظومة «الاسترقاق» بـ «ملك اليمين»؟!
رابعا:
معنى ملك اليمين: تعالوا نُبيّن معنى الكلمتين:
* الملك: هو الحيازة التي تعطي لصاحبها حرية التصرف في المملوك بالانتفاع أو البيع، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، منها:
«أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ»
* اليمين: كناية عن القدرة والنصرة والغلبة، باعتبار أن اليد اليمنى هي التي يستخدمها المرء في شؤون حياته، قال تعالى:
«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن (فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَى)»
ولاحظ أن معنى «في أيديكم» أي «في ملككم ووثاقكم»، فـ «الأيدي» مستعارة لـ «المِلك»، تدبر قوله تعالى:
«تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
وتدبر أيضا قوله تعالى:
«وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى. قَالَ هِيَ عَصَايَ..»
«وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ»
فإذا أعدنا الكلمتين إلى الجملة يصبح معنى «ملك اليمين» هو:
ما ملكه الإنسان بالمال، أو بالغلبة والقدرة، وأصبح يتصرف فيه كما يشاء.
خامسا:
لم ترد كلمة «ملك اليمين» في القرآن إلا بصيغة الماضي، ولم تأت لإنشاء حكم تشريعي جديد، وإنما لمعالجة إشكاليات كانت موجودة على أرض الواقع يوم بُعث رسول الله محمد.
ويعتبر نكاح «ملك اليمين» نكاحًا «من الدرجة الثانية» لأنه تكاليفه المالية لا تقارن بنكاح «المرأة الحرة»، لذلك نزل القرآن ينهى عن نكاح «الفتاة» من «ملك اليمين» إلا في حالة عدم استطاعة نكاح «الحرة»، فقال تعالى:
«وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ»
ويأمر الله الأولياء والسادة بضرورة معاونة الآتي ذكرهم في الآية التالية على «الزواج»، ومنهم «الأَمَة» من ملك اليمين، فقال تعالى:
«وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»
* الأَيَامَى: جمع أيِّم، وهو كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها.
* عِبَادِكُمْ: جمع عبد، وهو الرقيق
* إِمَائِكُمْ: جمع أَمَة.
وتدبروا اشتراط «الصلاح» في نكاح «ملك اليمين»:
«وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ»
سادسا:
لم ترد كلمة «ملك اليمين»، في السياق القرآني، إلا بصيغة الماضي ومسبوقة باسم الموصول «ما» الدال على غير العاقل: «مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»، إلا في آية واحدة جاء اسم الموصول «الذين»، وهي قوله تعالى:
«لِيَسْتَأْذِنْكُمْ (الَّذِينَ) مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ»
ولم يقل الله تعالى:
«لِيَسْتَأْذِنْكُمْ (مَا) مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ»
والسبب:
أن في استخدام اسم الموصول «ما» الدال على غير العاقل في جميع الآيات التي ورد فيها ذكر «ملك اليمين»، إشارة إلى نظرة الناس إلى «ملك اليمين» باعتبارهم سلعة تُباع وتشترى، فأنزلها الله منزلة غير العاقل.
أما قوله تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ..»
فقد جاء اسم الموصول «الذين» في سياق تعليمي تربوي يُخاطب العقلاء، وإلا ما أمر الله «الذين آمنوا» بتربية ما ملكت أيمانهم وأولادهم على ذلك.
إذن فالأصل أن «ملك اليمين» سلعة تُباع وتشترى، لذلك كانت عقوبتها، إذا أتت بفاحشة نصف ما على الحرة من العذاب، كما أنها تقبل أن يستمتع سيدها بعشرات النساء!!
وهذا ما أكده «محمد شحرور» في حواره مع برنامج «القاهرة اليوم» عندما استشهد بعبد الرحمن ابن عوف الذي كان يستمتع بـ «٩٠» مما ملكت يمينه.
والسؤال:
ما هي «طبيعة هذه المرأة»، التي تعلم أن «عشيقها» يملك عشرات النساء مما ملكت يمينه، حسب مفهوم «محمد شحرور»، ويمر عليها من فترة لأخرى ليعطيها حقها، ثم يترك كل واحدة منهن في بيتها يحرم عليها النظر إلى غيره؟!
«طيب وهي داعش كانت بتعمل إيه أكتر من كده»؟!!
وأخيرا أقول:
لقد بيّنت فيما سبق مفهوم «ملك اليمين» في السياق القرآني، وهو مسألة واحدة من عشرات المسائل المتعلقة بباب «ملك اليمين».
وسأكتفي بهذه المسألة، لأن المقصود هو بيان الفرق بين مفهوم «ملك اليمين» الذي أنزله الله في كتابه، ومفهوم «ملك اليمين» الذي أحل به «محمد شحرور» فروج النساء في القرن الواحد والعشرين باسم القراءات القرآنية المعاصرة.
محمد السعيد مشتهري