لماذا «عاطف الحاج محمود»، وليس «شحرور»؟!
لقد وقفت «الآبائية» عقبة أمام وصول الرسالات الإلهية على وجهها الصحيح إلى الناس، فبعد وفاة الرسل، ينحرف الناس عن رسالات ربهم، ويتفرّقون في الدين إلى فرق ومذاهب شتى، وكلما ابتعد الناس عن عصر «النبوة» زاد انحرافهم وميلهم عن صراط ربهم المستقيم.
ولقد بعث الله خاتم النبيّين محمدًا، عليه السلام، وجعل «الآية» الدالة على صدق نبوته «آية عقلية» يحملها الكتاب الذي أنزله عليه، القرآن الكريم.
وكان من الطبيعي أن يقوم الشيطان بدوره مع أتباع هذه الرسالة الخاتمة، فلما عجز عن اختراق الآيات القرآن ذاتها، ذهب يوحي إلى أتباعه بتحريف دلالات كلماتها، فيسقط القرآن وأحكامه ولكن بطريقة شيطانية ذكية، وكان هذا يحدث في عصر الرسالة، يقول الله تعالى:
«أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ – وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ»
لقد وقع الإلحاد، وتحريف معاني كلمات الله، من المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان، ويعيشون بين المسلمين، وهم يطعنون في القرآن، وكشف الله عنه بقوله:
«إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»
ونلاحظ أن قوله تعالى «فِي آيَاتِنَا» يشير إلى تمكن إلحادهم حتى كأنه وصل إلى داخل الآيات نفسها، كما أفاده حرف «في»، أي لتصبح بلا معنى.
إن إطلاق فعل «يُلْحِدُونَ»، وبعده قوله تعالى «فِي آيَاتِنَا»، يدل على أن المقصود به هو الانحراف عن دلالة الكلمة القرآنية، سواء كانت المقروءة أو المشاهدة، ومن ذلك الإلحاد في أسماء الله الحسنى، يقول الله تعالى:
«وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ، سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»
ومن المشاريع الفكرية التي تُلحد في الآيات القرآنية، والتي سبقتها التوجهات الدينية السلفية المختلفة، ما يُسمى بـ «القراءات القرآنية المعاصرة».
لقد أقام الدكتور محمد شحرور قراءته المعاصرة على مصطلحات صنعها لتوافق توجهه الفكري، ولا علاقة لها بمنظومة تدبر القرآن، كما أقامها على إيمانه بحجية «الأحاديث النبوية»، فكيف تكون قراءة معاصرة؟! وعلى إيمانه بحجية مراجع «اللغة العربية»، ولكنه اعتمد بشكل أساس على مرجع واحد فقط لأنه يخدم هواه العقدي.
يقول د. شحرور في مقدمة كتابه «الكتاب والقرآن»، وفي سياق الحديث عن المنهج الذي اتبعه في هذا الكتاب:
«لقد استعرضنا معاجم اللغة فوجدنا أن أنسبها هو معجم مقاييس اللغة لابن فارس، تلميذ ثعلب، الذي ينفي وجود الترادف في اللغة، فقد تم الاعتماد عليه بشكل أساسي دون إغفال بقية المعاجم».
وعن حجية «الأحاديث النبوية»، كتب فصلًا بعنوان «السنة»، بدأ حديثه بذكر أدلة حجية السنة، وبقوله تعالى:
«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»
ثم ذكر رواية:
«تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله»
وقال بعدها: «حديث شريف، أخرجه الموطأ».
ثم رواية:
«ألا أني أوتيت هذا الكتاب ومثله معه»، ثم قال بعدها: الكتاب والسنة الرسالة، وذكر المصدر: «جامع الأصول في أحاديث الرسول»
ثم رواية:
«أوتيت القرآن ومثله معه»، ثم قال بعدها: القرآن والسبع المثاني «النبوة».
وبتدبر ما قاله د. شحرور عن الروايتين، نجد أنه اعتمد اعتمادًا رئيسيًا على «الروايات» في التفريق بين الكتاب والقرآن، وهذه وحدها مصيبة فكرية تهدم قراءاته المعاصرة للقرآن من قواعدها.
ثم في سياق الحديث عن «سنة الرسالة وسنة النبوة»، قال عن الطاعة المتصلة:
«وهي الطاعة التي جاءت فيها طاعة الرسول مندمجة مع طاعة الله بقوله:
«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»
وبقوله:
«وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ..»
ثم قال بعد ذلك:
«وبما أن الله حي باق وقد دمج طاعة الرسول مع طاعة الله في طاعة واحدة، ففي هذه الحالات تصبح طاعة الرسول مع طاعة الله في حياته وبعد مماته، هذه الطاعة جاءت حصرًا في الحدود والعبادات والأخلاق «الصراط المستقيم».
وهذه مصيبة فكرية تضاف إلى الأولى، أن يقول: «تصبح طاعة الرسول مع طاعة الله في حياته وبعد مماته»!!
إن الدكتور شحرور «سلفي» بمنهجية «معاصرة»، فهو يرى وجوب طاعة «الروايات» التي نسبها الرواة إلى الرسول في أبواب «الحدود والعبادات والأخلاق»، ولا أدري لماذا حصر «صراطه المستقيم» في «الروايات» المتعلقة بهذه الأبواب فقط؟!
وهل هناك عاقل يقبل أن تكون القراءات القرآنية المعاصرة، «قراءات مذهبية»، فإذا كان المفكر سنيًا استند في قراءته المعاصرة إلى مرويات أهل السنة، «جامع الأصول في أحاديث الرسول»، وإذا كان شيعيًا استند في قراءته المعاصرة إلى مرويات «أهل البيت»؟!
ولقد سبق أن قمت بإثبات تهافت الأصول التي أقام عليها د. شحرور قراءاته المعاصرة للقرآن في عديد من المنشورات السابقة.
أما عاطف الحاج محمود، فهو لا يملك أصلا «منهجية علمية» يمكن الاستناد إليها في الرد عليه، إنه لا يملك أكثر من وضع آيات قرآنية أمامك، لا علاقة لها بموضوع الحوار، ثم يقول لك لقد أجبت!!
إن عاطف الحاج محمود، يرى أن القرآن يُبيّن نفسه بنفسه، وعليه فهو يكفر بكل ما حمله المصدر الثاني للتشريع من تراث ديني، بما في ذلك مراجع اللغة العربية، لذلك فمصيبته الفكرية أكبر من «د. شحرور».
إن عاطف الحاج محمود، «ليس شخصًا»، وإنما «ظاهرة فكرية دينية»، تشكل خطورة كبيرة على ملة الوحدانية، وعلى التزام المسلمين بأحكام الشريعة القرآنية.
إنني لا أنتقد، ولا أنقض، أشخاصًا، فكرامة كل إنسان «مهما كانت ملته» فوق رأسي، وإنما قضيتي في «المنهج الفكري» الذي يتبعه من ينتسبون إلى الإسلام، ويدّعون تدبرهم للقرآن.
وعندما نتحدث عن «تدبر القرآن»، وعن أحكام الشريعة القرآنية، يجب الالتزام بالمنهجية العلمية، وبالأدوات التي أمرنا الله أن ندرس القرآن ونتدبر آياته على أساسها.
إنه من غير المعقول، أن نتبع منهجية «القرآن وكفى»، ثم نجد «كلمة واحدة» لا يوجد بيان لمعناها في القرآن، ثم نُصرّ على أن القرآن يُبيّن نفسه بنفسه!!
إنه من غير المعقول، أن نجد أمامنا «آية كاملة»، يقول الله فيها:
«مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ (بَحِيرَةٍ) وَلا (سَائِبَةٍ) وَلا (وَصِيلَةٍ) وَلا (حَامٍ) وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا (يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ»
ويستحيل فهمها من داخل القرآن، ثم نُصرّ على أن القرآن يُبيّن نفسه بنفسه، بل ونغضب ونقول: يا دكتور إنك لا تقبل الخلاف في الرأي!!
عن أي خلاف في الرأي تتحدثون، وقد أقمت هذا التحدي خلال أشهر مضت، ثم من عدة أيام حول هذه الآية السابقة، ولم يخرج منكم أحد بمعاني هذه الكلمات من القرآن؟!
«أَفَلا تَعْقِلُونَ»
محمد السعيد مشتهري