أولا:
لقد بدأت حديثي ببيان مفهوم «الشرك» في السياق القرآني، وأن له أكثر من صورة:
١- «الذين اتخذوا إلههم هواهم»، ومعظمهم من أصحاب القراءات القرآنية الشاذة.
٢- «الذين اتخذوا أصنامًا آلهة»، وأصنام اليوم من البشر
٣- «الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعًا»، من أتباع الفرق والمذاهب العقدية المختلفة.
٤- «اليهود والنصارى»، الذين «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ»، وقوله تعالى بعدها: «سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ».
وبيّنت أنه يستحيل أن ينزل الله آيات قرآنية تُحل «زواج» المسلم أو المسلمة من «مشرك»، حسب صور الشرك السابقة، لقوله تعالى:
«وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ»، «وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ»
لذلك يجب إعادة تدبر المسلمين، بجميع توجهاتهم الدينية المختلفة، لقوله تعالى:
«الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ..»
للوقوف على الفهم الصحيح لجملة «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ» لأنه لا يُعقل أن يكون مفهوم هذه الجملة إباحة الزواج من «اليهود والنصارى» الذين وصفهم الله وقت نزول القرآن بـ «المشركين»؟!
ثانيا:
لقد وضع الله «القاعدة العامة» التي تقوم عليها أحكام «النكاح في الإسلام»، فقال تعالى في سورة الممتحنة، في سياق بيان أحكام المؤمنات المهاجرات:
القاعدة: «وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ»
فعندما علم المسلمون صدق إيمان المهاجرات، أمرهم الله ألا يرجعوهن إلى أزواجهن الكفار، «لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَاهُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ»، أي أن الرابطة الزوجية بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر قد انقطعت تماما.
وهذه الآية من البراهين القرآنية قطعية الدلالة على استحالة زواج المسلمة بغير المسلم، قولا واحد.
ثالثا:
إن قوله تعالى: «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ»، يعني التصديق بأصول «الإيمان» الخمسة «قولا وعملا»، وهي الإيمان:
«بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ»
وطبعا من الإيمان بـ «الرسل» الإيمان برسول الله محمد، وعلى أساس هذا «الإيمان» قال تعالى:
«فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ»
فهل الملل والنحل التي كانت موجودة في عصر الرسالة، وفي مقدمتها «اليهود والنصارى»، آمنت وصدّقت برسول الله محمد، أم كفرت به؟!
رابعا:
لقد انقسم «أهل الكتاب» إلى فريقين:
الأول: من كفروا برسول الله محمد وبكتابه.
الثاني: من آمنوا، وهؤلاء سمّاهم الله «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ»، وهم الذين ظلّوا متمسكين بالحق الذي كان عليه رسلهم، ويعلمون من كتبهم بمجيء رسول الله محمد، فلما بعثه الله آمنوا به.
إن أول آية ورد فيها «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ» هي قوله تعالى:
«الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ»
لقد مدحهم الله لأنهم كانوا يتلون ما جاء في كتبهم «حَقَّ تِلاوَتِهِ»، لذلك آمنوا بالنبي الخاتم محمد وبكتابه فور بعثته.
أما الذين كفروا بالنبي الخاتم وبكتابه، «وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ»، فهم الفريق الآخر من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، «فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ».
فعندما تجد في كتاب الله قوله تعالى «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ» فاعلم أنهم «الذين آمنوا» من «أهل الكتاب».
خامسا:
إذن فعندما يطلق الله لفظ «أَهْل الْكِتَاب» نعلم أن منهم «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ»، و«الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ».
ويصبح الذين «دخلوا في الإسلام» كانوا إما من أهل الكتاب: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ ـ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ»، أو من «المشركين»، والذين كفروا هم أيضا من:
«لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ. رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً. فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ»
ثم تدبر ماذا قال الله بعدها:
«وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ. وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»
ثم انظر إلى مصير «ملة الكفر» التي كانت موجودة في عصر الرسالة في مواجهة «ملة الإسلام»، فقال تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ»
سادسا:
لم يرد «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ» إلا في سياق المدح، وفي «تسع آيات»، لذلك نسب الله «الإيتاء» إلى نفسه «آتَيْنَاهُمْ»، وجاء الفعل «مبنيًا للمعلوم»، إشارة إلى صلاح هذه الطائفة وتكريم الله لها، لأنهم كانوا «أهل علم»، وصفهم الله تعالى بقوله:
«قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا»، أي بالقرآن، «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ»، أي من قبل القرآن «إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً. وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً. وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً»
أما «الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ»، فقد ورد ذكرهم في سياق الذم، وبيان ضلالاتهم وانحرافهم عن «كتاب الله»، لذلك جاء فعل «الإيتاء» مبنيًا للمجهول، لبيان أنهم ورثوا الكتاب عن آبائهم، دون حفظ الله له، وحرّفوا وبدّلوا فيه، فضلّوا صراط ربهم المستقيم.
سابعا:
وأخيرا ذكرت الآيات التي ورد فيها «الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ» في سياق الذم، ومنها قوله تعالى:
«قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ (مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ»
إن قوله تعالى «مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ» يُبيّن أن مسألة «الجزية» لا علاقة لها بعموم «أهل الكتاب»، ولا بـ «الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ»، وإنما بفريق «مِنْ» .. «الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ»، لم يكتفوا بالكفر بالنبي محمد وبكتابه، وذهبوا يحاربون الله وينتهكون حرمة شريعته.
وللموضوع بقية
محمد السعيد مشتهري