يستحيل أن أُضيّع وقتي ووقت الأصدقاء في عرض تفصيلي يُبيّن كيف يعبث أصحاب بدعة «القرآن يُبين نفسه بنفسه» بآيات الذكر الحكيم، ولكن ما حدث أن الصديق عاطف الحاج محمود نشر اليوم على صفحته، مفهومه لكلمة «النسيء».
إن كلمة «النسيء»، وغيرها من عشرات الكلمات التي وضعتها أمام أصحاب هذه البدعة، وقلت لهم ائْتوني ببيان معناها من القرآن، بل ووضعت أمامهم سورا بأكملها «الفيل وقريش» وقلت لهم ائْتوني بمن هم أصحاب الفيل، ومن هي قريش، من داخل القرآن.
لذلك كان من الضروري بيان، أن ما جاء به الصديق عاطف الحاج في منشوره، لم يُبيّن معنى كلمة «النسيء» على الإطلاق، فتعالوا نستعرض ما قاله، ليتبين لكم ذلك.
(أولا): يقول: «النسيء لا يحتاج الى أبحاث أو كتب أو مجلدات لنفهمه … فإذا كان النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ، فما هو الكفر المقصود أولاً وكيف يزداد؟!»
١- الخطأ المنهجي الذي وقع فيه، قوله:
«فما هو الكفر المقصود أولاً وكيف يزداد»؟!
من أصول البحث العلمي، أن يقوم أولا بتعريف «النسيء»، ثم بتعريف «الكفر»، ثم يبحث بعد ذلك كيف يكون «النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ»!!
(ثانيا): ذهب إلى تفسير آيتي التوبة «٣٦-٣٧»، فقال:
«أربعة أشهر حرم هي الدين القيّم حددها الله تعالى ميزاناً من موازين عمارة الأرض، هي أشهر هدنة لا قتال فيها، بدليل: «فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» (التوبة ٢) وهي أشهر إنتاج يحرم فيها الصيد، بدليل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» (المائدة ٩٥)
٢- الخطأ المنهجي الذي وقع فيه:
(أ): قوله عن الأشهر الحرم «حددها الله تعالى»!!
فأين حددها الله تعالى، وما هي أسماؤها؟!
(ب): قوله «بدليل: فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»
إن هذه «الأربعة أشهر»، الواردة في أول سورة التوبة، جاءت نكرة، لذلك يستحيل أن تكون هي «الأربعة الحرم» التي عرفها الناس «يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»، والثابتة كل عام، والتي تبدأ بذي القعدة.
لذلك فإن القول بأن «الأربعة الحرم»، التي عرفها الناس جميعًا، هي نفسها المُهْلَة التي وردت في قوله تعالى: «فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»، مصيبة فكرية كبرى، أقام عليها فهمه لموضوع «النسيء»!!
(ج): إن قوله تعالى: «فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»
يعني أن هذه «الأربعة أشهر» أصبح يَحْرُمُ فيها قتال المشركين، وأنهم سيتحركون في البلاد خلالها بحرية كاملة، لن يتعرض لهم أحد، وقد تم إبلاغهم بذلك «يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ»،
لقوله تعالى بعدها:
«وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ..»
ويوم الحج الأكبر يكون في شهر «ذي الحجة»، وليس في شهر «ذي القعدة»، الذي هو أول «الأربعة الحرم»، فكيف تكون هذه «الأربعة الحرم»، التي حرمتها دائمة في كل عام، هي نفسها مهلة «الأربعة أشهر» التي أعطيت للمشركين، ثم تنتهي؟!
(د): إذا تاب المشركون خلال هذه المهلة التي «حرم» الله فيها القتال، إذن فلا قتال، وإن تولوا، إذن فهم يعلمون مسبقًا أن المسلمين سيقاتلوهم، وهذا ما بيّنه الله استكمالا لأحكام الآيات السابقة بقوله:
«فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ»
إن التعبير بكلمة «انسَلَخَ»، مسبوقًا بـ «فَإِذَا»، يُبيّن أن هذه الجملة متعلقة بأقرب مذكور، وأقرب مذكور هو قوله تعالى: «فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ..»، ولذلك لا علاقة مطلقا بين انسلاخ أشهر المهلة الأربعة، المحرم فيها قتال المشركين، وبين «الأشهر الحرم» التي تبدأ بذي القعدة؟!
(ثالثا): وعلى أساس فهمه الخاطئ للأربعة أشهر المهلة التي أعطيت للمشركين، واعتبارها هي «الأشهر الحرم» التي تبدأ بذي القعدة، قال عنها:
«فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ»: التزموا بالميزان الذي حدده الله سبحانه في هذه الأربعة أشهر الحرم فلا تقتلوا الصيد ولا تعتدوا»!!
ثم قال: «فلننتبه باهتمام:
جاء النص معطوف على: «فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ»، «وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً»
وعقب بقوله: «إذا قاتلوكم أربعة أشهر قاتلوهم أربعة أشهر، وإذا قاتلوكم شهراً واحداً قاتلوهم شهراً واحداً، حتى لا تظلموا أنفسكم فيهن أيضاً، واعلموا أن الله معكم إن كنتم من المتقين»
٣- الخطأ المنهجي الذي وقع فيه:
(أ): إلى الآن لم يُبيّن لنا أين هي «الأشهر الحرم»، وما هي أسماؤها؟!
(ب): عاد وأطلق «الأربعة أشهر»، وقال: «إذا قاتلوكم أربعة أشهر قاتلوهم أربعة أشهر…»، يعني أي أربعة أشهر، وقد سبق أن قال عن هذه الأشهر: «حددها الله تعالى ميزاناً من موازين عمارة الأرض»!!
(ج): إن قوله تعالى: «فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ»، يتحدث عن «الأشهر الحرم» الثابت حرمتها كل عام، والتي جاءت في سياق بيان تحريم «النسيء».
ولقد كان المسلمون يعملون بالنسيء قبل تحريمه، فلما نزل التحريم، وعادت أسماء الشهور القمرية إلى مكانها الصحيح، قال الله لهم بعدها مباشرة:
«وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً»
ثم بيّن لهم بعدها حقيقة هذا «النسيء»، فقال تعالى:
«إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا»
فما علاقة «الأشهر الحرم» الثابت حرمتها كل عام، والتي تبدأ بذي القعدة، بالمهلة التي أعطاها الله للمشركين في أول السورة:
«فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ..»؟!
(رابعا): وإذا كانت القواعد التي قام عليها البناء «متهافتة»، فإن كل ما يبنى عليها سيسقط، فتفرع إلى مسائل أخرى لا علاقة لها بموضوع المنشور، فقال: «وما يعزز هذا الفهم»، ثم جاء بالآية «١٩٤»:
«الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ»، ثم قال:
«يهدف المشركين من قتالكم أن يردوكم عن دينكم وهذا أصلاً كفر بالله».
ثم جاء بالآية «٢١٧» ووضعها بعد السابقة:
«وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ»!!
ثم قال:
«ويزداد المشركين كفراً بالله إذا قاتلوكم في الأشهر الحرم بقصد إشهار كفرهم وعدم التزامهم بما أنزل الله، ففي عام يقاتلونكم وفي العام الذي يليه لا يقاتلونكم ليثبتوا أنهم اصحاب القرار… وهذا التغيير في عدة الاشهر الحرم، التغيير في هذا الميزان، هو
النسيء»
٤- الخطأ المنهجي الذي وقع فيه:
إنها «القاصمة» الكبرى، فمن أي مصدر معرفي جاء بقوله:
«ففي عام يقاتلونكم، وفي العام الذي يليه لا يقاتلونكم»
هل من القرآن؟! يستحيل، لأن القرآن عندما قال: «يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً»، كان يتحدث عن «النسيء» الذي حتى الآن لم يُبيّن لنا معناه!!
فأين معنى كلمة «النسيء» نفسها في القرآن، وليس ما كانوا يفعلونه بـ النسيء: «يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً»، أو «ففي عام يقاتلونكم، وفي العام الذي يليه لا يقاتلونكم»؟!
(خامسا): ثم عاد يوضح أكثر، فقال:
«القتال في الأشهر الحرم يهدف الى تغيير في القانون السماوي المتعلق بالأشهر الحرم لإشهار الكفر، عدة الأشهر الحرم أربعة أشهر كل عام: هذا هو الميزان، إذن: عدة الأشهر الحرم ثمانية أشهر في كل عامين: «يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ» عَامًا، وبما أن المشركين يقاتلونكم مرة كل عامين في هذه الأشهر الحرم، قاتلوهم فيها كافة»
ثم قال: هذا هو فهمي للنسيء من القرآن وبكلمات قليلة»
٥- الخطأ المنهجي الذي وقع فيه:
الحقيقة لولا أن الموضوع هو موضوع «النسيء» الذي سبق أن نشرت موضوعه على هذه الصفحة، ما كتبت مطلقا بهذا التفصيل، لأني ما قرأت للصديق «عاطف الحاج» موضوعًا يُبيّن أنه يتدبر القرآن كما أمره الله تعالى.
إن الله تعالى عندما قال: «يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ»، ليس معناه أن «عدة الأشهر الحرم ثمانية أشهر في كل عامين»، كما فهم، وإنما كان يحدث هذا أعواما وأعواما، وصلت إلى ثلاثة عقود حتى عادت أسماء الشهور إلى مكانها الصحيح.
ولا تعليق على ما قاله بعد ذلك!!
ولكن: أين معنى كلمة «النسيء»، التي هي موضوع منشوره؟!
وتعالوا إلى بعض ما قاله تعقيبًا على تعليقات الأصدقاء، يقول:
١- «أرجو قراءة البحث جيدا، هذا بحث جديد غير مسبوق، يدحض الكثير من الخرافات التي قيلت في النسيء»
٢- «أربعة أشهر حرم هي الدين القيّم حددها الله تعالى ميزاناً من موازين عمارة الأرض»
* والغريب أنه لم يسأل أحدٌ من المعجبين، عن أسماء هذه الأشهر الحرم، التي هي الدين القيم، والتي حددها الله تعالى؟!
٣- «قاموس اللغة ليس حجة على القرآن»
* وهل هذه العشوائية الفكرية، التي تتخذها منهجًا في فهم القرآن، وكان هذا المنشور مجرد مثال عليها، هي الحجة على القرآن؟!
محمد السعيد مشتهري