مجمل القول:
أولا: يستحيل اختراق «السنن» المستقرة التي قام عليها النظام الكوني، «يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»، ومن هذه السنن التوقيت القمري الذي نزل فيه قوله تعالى:
«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»
لذلك يستحيل التلاعب بالأشهر الحرم، «أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ»، التي لا نعلم مواقيتها إلا على طريق «الأهلة»، التي نزل فيها قوله تعالى:
«يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ»
فعندما يقول «الجهلاء»:
إن القرآن يبين نفسه بنفسه، يجب على المخدوعين بهم أن يسألوهم:
أين بيان القرآن لـ «أسماء» الأشهر القمرية، التي منها «أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ»؟!
ثانيا: إن «الدِّينُ الْقَيِّمُ»، الذي حمل «الأَهِلَّةِ» و«عِدَّةَ الشُّهُورِ» للناس، يقوم ميقات «الْحَجِّ» فيه بدور محوري وأساسي، وعلينا أن ننتبه إلى هذه المسألة جيدًا.
إن تخصيص ذكر «الحج»، في قوله تعالى:
«هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ»
بعد قول تعالى عن «الأهلة»:
«هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ»
يُبيّن للمسلمين في أقطار الأرض، ضرورة الاستعانة بـ «الأهلة» التي تثبت مطالعها في «مكة»، لأنها البلد الذي تؤدى فيه فريضة «الحج»، بصرف النظر عن التوجه الديني المذهبي للقائمين عليها، فنحن أمام آيات وظواهر فلكية يستحيل تحريفها أمام علماء العالم.
ثالثا: يستحيل أن تنزل آيات تُبيّن «عدة الشهور»، و«الأهلة»، وميقات «الحج»، إلا بعد إلغاء العمل بـ «النسيء» الذي كان يُعمل به بعد بعثة النبي، وهذا ما بيّنه الله بعد بيان «عِدَّةَ الشُّهُورِ» مباشرة بقوله:
«إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ» – «يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا» – «يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً» – «لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» – «فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ» – «زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ» – «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»
لقد انتهى العمل بنظام «النسيء»، وعادت «أسماء» الشهور القمرية إلى مكانها الصحيح، ويبدو أن الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، لم يقرؤوا قوله تعالى في ختام الآية: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»!!
لقد ظن البعض أن عمل بعض الدول المتقدمة بنظام «النسيء»، يعني جواز العمل به في بلاد المسلمين، ولم ينتبهوا إلى أن هذا النسيء في أصله كان «وَهْمًا»، وقد نزل القرآن بتحريمه.
«فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»؟!
رابعا: إن «ضياء» الشمس هو الذي يطرأ على «ظلمة» الأرض، فيغطي المساحة المقابلة له، فيراها الناس نهارًا، ويراها الذين يعيشون على الجهة الأخرى المقابلة ليلًا.
فإذا نظرنا على يمين وشمال هذا «النهار»، وعلى يمين وشمال «الليل»، فسنجد أن هذه المساحة تجمع بين ظلمة الليل، وضياء النهار، وهي الظواهر الفلكية التي عبر عنها القرآن بـ «الانسلاخ، الإيلاج، التغشية، التكوير».
إن هذه الظواهر الفلكية، وإن كانت ليست في حقيقتها ليلًا ولا نهارًا، إلا أننا نلاحظ أن القرآن يُسمّيها ليلًا، أو نهارًا، نسبة إلى أصل الداخل منها:
فإذا كان أصل الداخل «ليلًا»، سُمّيت المساحة بين غروب الشمس وغسق الليل ليلًا، وإن لم تكتمل ظلمته إلا عند درجة الغسق، وما بعدها من أجزاء الليل.
وإذا كان أصل الداخل «نهارًا»، سُمّيت المساحة الزمنية بين الفجر والشروق نهارًا، وإن لم يكتمل ضياء الشمس إلا عند شروقها وما بعده من أجزاء النهار.
خامسا: يستخدم السياق القرآني كلمة «الليل» بالمفهوم العام، ويستخدمها بالمفهوم الفلكي الذي يُقَسّم الليل إلى أجزاء، منها «غَسَقِ اللَّيْلِ»، ثم «العَتَمَةُ» ثم «الفَحْمَةُ».
فلو أراد الله أن يمتد الصيام حتى يدخل «ظلام الليل» لقال تعالى: «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ»، وليس: «إِلَى اللَّيْلِ»، كما قال تعالى في بيان مواقيت الصلاة:
«أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ»
سادسا: معنى كلمة «يُطِيقُونَهُ»، في قوله تعالى:
«وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ»
١- يجب أن نعلم أنه «لا نسخ في القرآن»
ولكن هناك آيات نزلت لمواقف حدثت في عصر الرسالة، ولم تعد لها فعالية بعد موت النبي، ومنها على سبيل المثال ما جاء في مقدمة سورة الحجرات.
وهناك تشريعات تم إلغائها، أو إلغاء بعضها، ومنها «تخيير» المؤمن بين أن يصوم أو لا يصوم، وذلك في مرحلة التشريع الأولى لأحكام الصيام، وقد سبق بيان ذلك في المنشور السابق.
٢- إن «المطيق» هو الذي في قدرته أن يفعل، وهناك من يفعل ولكن فوق طاقته، أي بمشقة، وهناك من لا طاقة له أن يفعل أصلا، «طاقة: صفر».
ولكي نفهم معنى «يُطِيقُونَهُ» في هذا السياق، تعالوا نتدبر سياق الآية «١٨٣» من سورة البقرة من أوله:
* قوله تعالى «الآية ١٨٣»:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»
«كُتِبَ عَلَيْكُمُ»: أي أن الله فرض على كل مؤمن الصيام، ولا عذر له في الإفطار، حتى في حالتي «المرض والسفر»، يجب عليه إتمام صيام الشهر كاملا، لقوله تعالى: «فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ».
إن «المرض» ذاته ليس عذرًا للإفطار، وإنما العذر في طبيعة المرض الذي يجعل المريض عاجزًا عن الصوم، فلو كان مرضًا يستطيع صاحبه الصيام دون أن يلحق به أي ضرر، فلا
يحل له أن يفطر.
* وأيضا قوله تعالى «الآية ١٨٤»:
«يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ»
سنجد أن هذه الجملة جاءت مكان:
«وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ»
إذن فعلينا أن نعلم:
(أ): أن قوله تعالى في «الآية ١٨٣»:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»
نص قطعي الدلالة، على وجوب أن يصوم كل مؤمن، عدة الأيام التي فرضها الله عليه، وقد كان هذا في المرحلة الأولي من تشريع أحكام الصيام: «أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ»، وتفصيل ذلك في المنشور السابق.
(ب): أن قوله تعالى في ختام «الآية ١٨٣»:
«وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ»
جاء بعد قوله تعالى:
«وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ»
وهذا يُبيّن نوع «الطاقة» المقصودة في هذه الجملة، وهي من النوع الأول الذي بيّناه من قبل، وهو:
«المطيق» الذي في قدرته أن يفعل.
فكان المؤمن مُخيرًا في المرحلة الأولى من التشريع، بين أن يصوم أو يدفع الفدية، والله تعالى يقول: «وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ».
(ج): أن قوله تعالى في «الآية ١٨٤»:
«وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ»
نص قطعي الدلالة، على وجوب أن يصوم كل مؤمن، عدة الأيام التي فرضها الله عليه كاملة، وقد حددها الله في المرحلة التشريعية الثانية والأخيرة، بشهر رمضان، وتفصيل ذلك في المنشور السابق.
محمد السعيد مشتهري