نحو إسلام الرسول

(759) 25/5/2017 دفاعاً عن القرآن (4)

«قريش»، وقصة «النسيء»، وغزوة «تبوك»

إن من ابتدعت بدعة «النسيء» هي قبيلة «كنانة»، التي تعتبر «قريش» فرعًا منها، ولكن «قريش» استقلت بذاتها عن سائر قبائل بني كنانة، واستوطنت «مكة».

لقد تولّت «قريش» القيام بأعمال الحج، وكانت تعيش على التجارة، فتذهب قوافلها إلى الشام في الشتاء، وإلى اليمن في الصيف، ثم تأتي القبائل إلى أشهر الأسواق «سوق عكاظ وسوق مجنة وسوق ذي المجاز» لشراء احتياجاتها.

يقول الله تعالى في سورة «قريش»:

«لإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»

إن إضافة رحلة إلى الشتاء من إضافة الفعل إلى زمانه الذي يقع فيه، وظاهرها أن رحلة الشتاء والصيف معروفة، وكانت «قريش» تتعرض خلال الرحلتين إلى اعتداءات مستمرة سُمّيت بحروب «الفجار» لانتهاكها حرمة الأشهر الحرم.

فإذا ذهبنا إلى «علم السياق»، نجد أننا يجب أن نقف على العلاقة بين سورة «قريش» وسورة «الفيل» التي قبلها مباشرة، حيث يقول الله تعالى:

«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ»

ففي سياق بيان نعم الله على العرب، يخاطب الله رسوله بأحداث لم يرها، باعتبارها حقائق تاريخية، نقلتها «منظومة التواصل المعرفي»، فأخذت نفس حجية الرؤية.

لقد سمع أهل مكة بقدوم أصحاب الفيل، فتركوا «الرحلتين» وهربوا من مكة، وتفرقوا في البلاد، ومن نعم الله عليهم، أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا، لصار حال أهل مكة كحال اليهود متفرقين في البلاد، ولكن الله أهلك أصحاب الفيل، لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما معيشتهم، وعادوا إلى ديارهم، تمهيدا لبعثة النبي محمد.

إنه تذكير بنعم الله على «قريش»، وأنه سبحانه أوجد الألفة بينهم وبين سائر القبائل بعد عودة الرحلتين، وبدأ الناس ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ويعيرونها أهمية.

لذلك كان عليهم أن يوجّهوا عبادتهم إلى رب هذه الكعبة «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ»، ويُقرّوا له بـ «الوحدانية»، بعد أن أصبحت قريش تأمن في سفرها، وقت أن كان الناس يغير بعضهم على بعض، والناس يتخطَّفُون من حولهم:

«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ»

ومع تعظيم العرب «الأشهر الحرم»، باعتبار أنها من ملة إبراهيم، فقد كان يشق عليهم الكف عن التجارات والغارات ثلاثة أشهر متوالية، وربَّما قامت بينهم حروب، فكانوا لا يستطيعون وقفها أو تأخيرها بسبب هذه الأشهر الحرم.

لذلك «نسؤوا»، أي كانوا يؤخِّرُون تحريم شهر «المحرم» إلى «صفر» فيحرمون «صفر»، ويستحلُّون «المحرم»، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم «صفر» أخَّرُوه إلى ربيع الأوَّل، ويصنعون ذلك شهراً بعد شهر، حتَّى شمل «النسيء» السَّنة كلها.

لقد كانت حسابات العرب تقوم على نظام السنة القمرية، وكان ذلك يجعل الحج تارة يقع في الصيف، وتارة في الشتاء، الأمر الذي كان يُفقدهم كثيرًا من مصالحهم الدنيوية، فذهبوا إلى مسألة «النسيء»، الذي كان يجعل بعض السنين «ثلاثة عشر شهراً».

لقد نزل القرآن يُبيّن للناس أن «الدين القيم» الذي فرضه الله عليهم، مرتبطٌ بنظام السنة القمرية، وبشعائر الحج، التي تؤدى في «الأشهر الحرم»، وفي شهر «ذي الحجة» تحديدا، ولم يُنزّل الله «الدين القيم» مراعاة لفصول السنة الشمسية، لتصبح عدة الشهور ثلاثة عشر شهراً:

«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ..»

لذلك نزل القرآن بعدها يُبيّن أن مسألة «النسيء» زيادة في الكفر:

«إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا»

ونلاحظ هنا أن كلمة «إِنَّمَا»، كما ذكرت في المنشور السابق، جاءت للتحذير والتنبيه على حرمة هذا «النسيء»، وأن الله لم يُبيّن في القرآن ما هو هذا «النسيء»، لذلك علينا أن نستعين بمصادر معرفية للوقوف على قصته، ولماذا حرمه الله؟!

أولا: عندما أراد المسلمون المضي لمواجهة عدوهم «الروم» في غزوة «تبوك»، وكان ذلك في شهر رجب من العام التاسع الهجري، كانوا يعلمون أن شهر رجب من الأشهر الحرم، فكيف يبيحون لأنفسهم قتال عدوهم في هذا الشهر الحرام؟!

والحقيقة أن شهر «رجب»، من هذا العام «التاسع»، لم يكن إلا مجرد «اسم» على غير مسمى، لأن المسمى وقتها كان جمادى الآخرة، وعليه كان نفيرهم في جمادى الآخرة فعلًا وواقعًا.

لذلك بدأت الآية بكلمة «إِنَّمَا» لبيان هذه الحقيقة، وأن الله تعالى يُخبر الناس أنه في شهر «جمادى الآخرة» من العام «التاسع» الهجري، قد عادت دورة الشهور القمرية إلى مكانها الصحيح، وهذا هو «الدِّينُ الْقَيِّمُ».

لقد أصبح «النسيء» محرمًا، بل وزاد في تحريمه بالمبالغة في ذمه وذم من عمل به أو اقترب منه مرة أخرى بعد نزول هذه الآيات:

«إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ»

فلماذا يريدون إعادة الناس إلى عصر الجاهلية باسم القراءات القرآنية والمعاصرة والمستنيرة؟!

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى