طبعا هناك قصة لـ «النسيء»، ولكنها خارج القرآن
ومفتاح الدخول إليها: اللغة العربية، والسياق القرآني
أما عن «اللغة العربية»، التي يكفر بها أصحاب بدعة «القرآن يُبيّن نفسه بنفسه»، فمفتاحها في كلمة «إِنَّمَا»، التي ربطت بين آية «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً..»، وبين «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ..».
وتأتي «إِنَّمَا» في سياق الخبر الذي لا يجهله المُخاطب ولا يستطيع تكذيبه، ومن ذلك أن يُخبر الله المخاطبين بمسألة يعلمون حقيقتها على وجه اليقين، كمسألة «النسيء».
وكما تأتي «إِنَّمَا» للحصر، فإنها تأتي أيضا للمبالغة، كقوله تعالى:
«وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ»
كما تأتي للتوكيد، كقوله تعالى:
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»
وكذلك تأتي للتحذير والتنبيه، كآية «النسيء»، وقوله تعالى:
«إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»
إذن فـ «النَّسِيءُ» شيء نزل القرآن يُحذر منه، ويُنبه على أنه «زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ»، فهل يُعقل أن بعد نزول هذه الآية، والآية التي قبلها مباشرة:
«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ..»
وقول الله عن هذه الأشهر القمرية، التي منها «أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ»: «ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ..»، يترك هذه الأشهر يُعبث بها مرة أخرى؟!
إذن علينا أولا الاطلاع على المصادر المعرفية التي نستطيع من خلالها أن نفهم قصة هذا «النسيء» الذي كان يعلمه المخاطبون في عصر الرسالة، ولم ينزل قرآن يُبيّنه للناس.
ولكن قبل الاطلاع على المصادر المعرفية لمعرفة قصة هذا «النسيء»، علينا أن نتدبر سياق سورة التوبة، للوقوف على الارتباط الوثيق بين موضوع «النسيء»، وبين المشركين وأهل الكتاب، خاصة وقد ورد في نهاية آية «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ..»، قوله تعالى:
«وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً»
فما علاقة هذه الجملة بصدر الآية «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً … مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»؟!
لذلك أقول:
إن الذين شغلوا أنفسهم بـ «النسيء» الذي تتبعه بعض الشعوب، وأجهدوا أنفسهم بالحسابات والمعادلات الرياضية للوصول إلى نتائج وهمية، ضلّوا طريق البحث العلمي الصحيح.
لقد شغلوا أنفسهم، وكتبوا الكتب والمنشورات، وتحدثوا عن شيء لا علاقة له مطلقا بـ «النسيء» الذي نزل القرآن يُعلن وفاته وانتهاء أمره إلى يوم الدين؟!
إن الله تعالى عندما يقول في سياق بيان «دلائل الوحدانية»:
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ»
فإنه سبحانه يخاطب قومًا يعلمون معنى هذه الآية، وفعاليتها في حياتهم، ويستحيل أن يقول بعدها:
«مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»
ثم يجعل شياطين الإنس أو الجن، في العصر الأموي أو في غيره، يعبثون بـ «دلائل الوحدانية» القائمة بين الناس إلى يوم الدين.
وعندما يقول الله تعالى في سياق بيان «دلائل الوحدانية»:
«وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ»
فيستحيل أن يقول الله بعدها:
«وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً»
ثم يجعل شياطين الإنس أو الجن، في العصر الأموي أو في غيره، يعبثون بـ «دلائل الوحدانية» القائمة بين الناس إلى يوم الدين.
وطبعا نحن ما زلنا في بداية قصة «النسيء»
محمد السعيد مشتهري