«لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، أزمةٌ تربوية عالمية
إن أكثر أهل الأرض يعيشون أسرى تدينهم الوراثي، هذا التدين الذي تتواصل حلقاته منذ أن يولد الإنسان إلى أن يتوفاه الله، ونادراً ما يقف الإنسان وقفة تأمل يتعرف خلالها على حقيقة تدينه، ومدى موافقته للحق الذي أمر الله اتباعه.
فهل يعقل أن يولد الإنسان حرًا، مزودًا بإمكانيات الإبداع والتطور الفكري، فإذا به عند بلوغ النكاح، واكتمال رشده، يجد نفسه أسير ملة آبائه، فاقد الحرية الدينية، يعيش في دائرة التقليد الأعمى، فإن أراد الخروج منها اتهم بالردة، ويستتاب، فإن تاب وإلا «قتل»؟!
أولا:
يقول الله تعالى:
«لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ»؟!
فكيف يتبيّن الإنسان الرشد من الغي، وهو منذ طفولته تابع لـ «ملة» البيئة التي ولد فيها، وقد تعلم «الدين» في مؤسساتها التعليمية؟!
ثانيا:
ويقول الله مخاطبًا أتباع النبي الخاتم محمد، عليه السلام:
«وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»
فهذا يعني أن «الردة» عن الدين «كفرٌ»، يُخلد صاحبه في النار، إذن فمتى يكون المسلم، المخاطب بهذه الآية، «مرتدًا»، وقد تفرق المسلمون أصلا في «الدين»، إلى فرق ومذاهب عقدية، يُكفر بعضها البعض؟!
ثالثا:
ويقول الله مخاطبًا الأبناء، مبيّنًا حقوق الوالدين عليهم:
«وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً»
إن تبعية الطفل لوالديه، وارتباطه العاطفي والمعرفي بهما منذ طفولته، تجعله أسير ملتهم، وهو على يقين باستحالة أن يكونا قد ضلا طريق الحق، ويظل في هذا الأسر حتى بعد بلوغه النكاح واكتمال رشده، يدافع عن ملة آبائه، وعن تدينهم الوراثي، بل ويقاتل في سبيلها.
فكيف لا يطيع الولد والديه في الشرك، وهو لا يعلم أصلا الفرق بين «الشرك» و«الوحدانية»، هذا الفرق القائم على البراهين العلمية، حسب ما بينه قوله تعالى:
«مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»
أي ما ليس لك به «عِلْمٌ» يُحلُّ لك أن «تشرك» بي؟!
رابعا:
ويقول الله مخاطبًا الإنسان:
«وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً»
والقفو: الاتباع، أي لا تتبع ما لا تملك برهانًا علميًا على صحته، لأنك محاسب على توظيف وسائل إدراكك، وتفعيلك لآليات التعقل والتفكر..، للوقوف على دلائل «الوحدانية»، والإقرار بصدق «الآية القرآنية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، عليه السلام.
فهل يعقل، بعد أن زوّد الله الإنسان بأدوات وآليات، تجعله مسؤولًا مسؤولية كاملة عن تدينه، أن يتنازل عن هذه المسؤولية لآبائه، فيتدبرون نيابة عنه، ويُفكّرون نيابة عنه، ويعقلون نيابة عنه؟!
لقد وقف نوح، عليه السلام، على عظم «فتنة الآبائية»، وتأثير البيئة على حجب الإنسان عن فطرته الإيمانية، فطلب من ربه أن يهلك الكافرين جميعًا حتى لا يخرج من أصلابهم ذرية فاجرة كافرة، ثمرة البيئة الكافرة التي سيعيشون فيها، فقال تعالى:
«وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً»
فانظر كيف عبّر نوح، عليه السلام، عن أثر البيئة على تدين الأبناء، وكأنها اخترقت أرحام الأمهات، وقامت بتربيتهم داخلها، ليخرجوا إلى الدنيا وقد تشربوا مذاهب آبائهم، فقال:
«وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً»
خامسا:
إذا كان الناس يولدون على دين آبائهم، فإذا بلغوا الرشد وجدوا قلوبهم قد تشربت ملل الآباء، وأصبحوا أسرى تدينهم الوراثي، دون إرادة منهم ولا اختيار، فهل سيعذر الله هؤلاء الأبناء، الذين اتبعوا ملة الكفر، تقليدًا لآبائهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟!
وكيف يعرف الأبناء أن آباءهم على الدين الحق واجب الاتباع؟!
إن المحور الأساس للإجابة على هذا السؤال، هو قوله تعالى:
«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»
«أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ»
«وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»
إن الخطاب القرآني في هذه الآيات، للناس كافة، لا فرق بين من ورث الكفر، وبين من ورث الإسلام، فكلهم مطالبون أن يقفوا على حقيقة تدينهم الوراثي، وموقعه من الدين الحق الذي أمر الله اتباعه.
وعلى الرغم من أن توحيد الله أمر فطري، موجود في أعماق النفس الإنسانية منذ تكوينها:
«أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا»
إلا أن الفطرة، دون تفعيل صاحبها لها، لا تعصم الناس من الانحراف عن الهدى ودين الحق، فإذا غفل الإنسان عن تفعيلها، فلا عذر له يوم القيامة:
«أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»
وأيضا لن يعذر الإنسان بتدينه الوراثي، الذي فرضه أبواه عليه يوم ولد:
«أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ»
ولذلك كان مصير تقليد الآباء الأعمى هو الهلاك في الآخرة:
«أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ»
وإن من رحمة الله بالناس، أنه بعد أن حذرهم من الوقوع في أسر «فتنة الآبائية»، وهم مازالوا أحياء، أخبرهم أن باب التوبة مازال مفتوحًا، لعلهم يرجعون:
«وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»
وأنا أرى، أنه لا سبيل إلى تفعيل قوله تعالى:
«وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»
إلا بوجود مرحلة دراسية تضاف إلى مراحل التعليم المختلفة، على مستوى شعوب العالم، يدخلها الأولاد بعد بلوغهم النكاح، واكتمال رشدهم، تتيح لهم فرصة دراسة الأصول الإيمانية التي قامت عليها الأديان الأكثر اتباعًا في العالم.
ولهذه «الرؤية» تفصيل في موضع آخر.
هذه هي فعالية نصوص «الآية القرآنية»، تدعو شعوب العالم إلي «حرية الاعتقاد»، ولكن على أسس علمية، غفل عنها أهلها الذين يقرؤونها ليل نهار، فهل تستجيب الشعوب لدعوة القرآن إلى «حرية الاعتقاد»، أم أنها سعيدة بـ «فتنة الآبائية»؟!
يبدو أنها «رؤيا»!!
محمد السعيد مشتهري
رابط الجزء الأول من فتنة الآبائية
https://www.youtube.com/watch?v=hTQSkbHsssY
رابط الجزء الثاني من فتنة الآبائية
https://www.youtube.com/watch?v=KF69ymTSgEI
رابط كتاب «فتنة الآبائية»
https://islamalrasoul.com/فتنة-الآبائية/