«الدال والمدلول»
إن علم «الدلالة» من علوم «اللغة العربية»، الذي يهتم بدراسة جوهر الكلمة، لتحديد المقصود من استعمالها، ذلك أن الكلمة، سواء أكانت اسمًا، أو فعلًا، أو حرفًا، تكون «فارغة»، لا معنى لها، حتى يأتيها «المسمى» الدال عليها، والمطبوع في ذاكرة الإنسان المعرفية.
و«الدال والمدلول» يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالجملة التي ترد فيها الكلمة، وبالسياق الذي وردت فيه الجملة، وبحركة إعراب الكلمة في السياق، وهل جاءت بالمعنى العام، أم مقيدة بأدوات التخصيص، فأقول:
أولا:
عندما يقول الله تعالى:
«هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ (السَّلامُ) (الْمُؤْمِنُ) الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ»
فإلى أي شيء ينصرف ذهننا، عندما نعلم أن من أسماء الله الحسنى، «السَّلامُ الْمُؤْمِنُ»؟!
إننا إذا ذهبنا إلى مراجع «اللغة العربية»، علمنا أن «الإيمان» من آمن وأن «الأمن» ضد الخوف، ويحصل المرء على «الأمن» إذا استقرت «الطمأنينة» و«الثقة» في قلبه.
وإذا ذهبنا إلى السياق القرآني، علمنا أن كلمة «الإيمان» إما أن:
* تتعدى بنفسها، وهنا يكون معناها «إعطاء الأمان»، فيقول الله تعالى:
«الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ»
وقال تعالى:
«وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً»
وقال تعالى:
«وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ»، أي الآمن.
* أو تتعدى بـ «الباء» والكلام، فيكون معناه «إقرار القلب»، ولا إقرار إلا بـ «التصديق»، قال تعالى على لسان أخوة يوسف:
«وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ»
وقال تعالى:
«فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ» – «فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ»
إن «الإيمان»، «إقرار» يتبعه «تصديق»، يتبعه «انقياد»، و«استسلام» لما أمر الله به.
ومن هنا كان أول ما يجب أن يتوجه إليه المرء بـ «الإقرار» الكامل، و«التصديق» الجازم، و«الانقياد» التام بـ «القول والعمل»، هو الإيمان بالله، وبفعالية أسمائه الحسنى، ومنها «السَّلامُ الْمُؤْمِنُ».
إن «السلام» مصدر، جعله الله اسمًا من أسمائه الحسنى، مبالغة في وصف «المسالَمَة»، أي أنه تعالى «ذو السلامة»، أي «السالم» من كل عيب ونقص، فكيف يظلم، وكيف يجور على حقوق المخلوقات، وهو سبحانه الخالق؟!
و«المؤمن» اسم فاعل من «آمن»، أي الذي يجعل غيره آمنًا، فالله تعالى خلق الوجود آمنًا، والبشر هم الذين نشروا فيها «الخوف».
وليس معنى أن الكلمتين «السَّلامُ الْمُؤْمِنُ» جاءتا للتعبير عن فعالية أسماء الله الحسنى، من حيث مفهوم «السلام»، و«الأمان»، أن نجعل هذا المفهوم عاما، يشمل كلمتي «الإيمان» و«الإسلام» في السياق القرآني، وذلك لورود آيات كثيرة تثبت غير ذلك.
إن تعدي «الإيمان» بنفسه، في السياق القرآني، بمعنى «إعطاء الأمان»، لا يجعلنا نترك تعديه بـ «الباء» والكلام، في مئات الآيات التي تحدث سياقها عن «مقتضيات» هذا «الإيمان»، من إقرار وتصديق وانقياد لأحكام الشريعة القرآنية، كقوله تعالى:
«آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ..»
ثانيا:
يقول الله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»
لقد وردت كلمة «الكفر» في السياق القرآني في مواضع كثيرة، دالة على أن الناس مختلفون في مِلَلِهم ونِحَلِهم، وأنه يحرم إكراه أحد على اعتناق ملة من هذه الملل، فقال تعالى:
«لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ»
إن الذي تبين له الرشد واتبعه، «فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى»، والذي لم يتبين له حسابه عند ربه، وعلى الناس أن يعيشوا في سلام، وأن يتعارفوا، لا أن يتقاتلوا:
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»
إن من المسلمات، والبدهيات، أن الناس تتعارف، وتعيش في سلام، وكل فرد منهم متمسك بملته، «كافر» بملة الآخرين، ومن هذا المنطلق وردت كلمة «الكفر» في السياق القرآني.
لقد وردت كلمة «الكفر» لبيان مواقف الاختلاف والتخاصم، والكيد ونقض المعاهدات، التي كانت تصدر من الذين «كفروا» برسالة النبي محمد، ولم يُرتّب الله على هذا «الكفر»، أي عقوبة في الدنيا، إلا إذا اعتدى «الكافرون» على المؤمنين.
لقد وظّفت المنظمات والجماعات الإرهابية كلمة «الكفر» لإيجاد شرعية لسفك دماء المخالفين لها في الملة، ولم يأت هذا التوظيف بناء على معنى «الكفر» في السياق القرآني، وإنما بمعناها الفقهي المذهبي، القائم على «المرويات» المنسوبة إلى النبي.
والسؤال:
هل عندما ننفي وجود «الكفر» في كتاب الله، نكون بذلك قد واجهنا التطرف، وقضينا على الإرهاب، أم نكون قد دعّمناه وأعطيناه فرصة ليقول لأتباعه «الجهلاء»، ها هي عشرات الآيات، التي تحمل كلمة «الكفر» الذي يُنكروه؟!
إننا يجب ألا نخشى من بيان وجه الحق في مسألة «التكفير»، لنقطع الطريق على «الإرهاب الفكري»، وعلى «الإرهابيين»، بـ «منهجية علمية»، و«موضوعية».
إن الناس جميعا «كافرون»، يكفر أتباع كل ملة بالملل الأخرى، فهل أمر الله الناس أن يسفكوا دماء بعضهم البعض، لأنهم «كافرون»؟!
ثالثا:
يقول الله تعالى:
«وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» – «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ»
نلاحظ هنا أن الله لم يُطلق كلمة «الحج» لتشمل كل شيء يريد المرء أن يحجّ إليه، وإنما «قيّدها» بـ «لام العهد»، لبيان أن المقصود، هو مسمى «البيت» المعلوم لمن أنزل الله عليهم القرآن، والمرتبط بمناسك وشعائر الحج، وهو «البيت الحرام» تحديدا.
رابعا:
يقول الله تعالى:
«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ (الصَّلاة) وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»
عندما يذكر الله أن من صفات المتقين، أنهم يقيمون «الصلاة»، علينا أن نسأل:
ما الفرق بين أن يقول الله «ويقيمون صلاة»، و«وَيُقِيمُونَ الصَّلاة»؟!
إن الإشارة إلى الصلاة بـ «لام العهد»، في قوله تعالى: «وَيُقِيمُونَ الصَّلاة»، معناه أن الله يخاطب قوما يعلمون كيفية إقامة هذه «الصلاة»، ومواقيتها، فتنصرف أذهانهم إليها.
إن الله تعالى لم ينزل كلمات القرآن بمعاني «مطلقة»، ليوظفها كل «مبتدع» حسب هواه، وإنما أنزلها حسب قواعد وعلوم «اللغة العربية» التي كان يتكلم بها «لسان العرب»، ومنها علم «الدلالة»، والدال والمدلول.
محمد السعيد مشتهري