هكذا يسقط نجوم «العشوائية الفكرية»
إنني عندما أنقد، أو أنقض، القواعد التي قامت عليها القراءات القرآنية الشاذة، سواء كانت سلفية أو قرآنية أو معاصرة أو مستنيرة، لا أفعل ذلك بمنهج عشوائي، وإنما بدراسة علمية لمشاريعهم الفكرية، التي احتفظ بملفاتها.
إنني أعلم أصول البحث العلمي، وأقمت مشروعي الفكري على «منهجية علمية» تحمل أدوات لفهم القرآن، مستنبطة من ذات النص القرآني، ولذلك قلت في مقدمة المنشور السابق، الذي بعنوان «الردة في الشريعة القرآنية» ما يلي:
«وعندما نقوم بدراسة أحكام الشريعة القرآنية، ينبغي أن نتناول آيات الموضوع الواحد، ولا تقتصر دراستنا على بعض الآيات، تفاديا للاستنتاجات الخاطئة»
ثم بعد ذلك جئت بآية تثبت أننا لو تعاملنا مع سياقها بمعزل عن سياق الآيات المتعلقة بموضوعها، لأسقطنا أحكامها، وقلنا إنه لا عقوبة «في الدنيا» على من قتل النفس، التي حرم الله قتلها، ولا عقوبة على الزني، لأن سياق الآية لم ينص على عذاب لهذه الجرائم «في الدنيا».
وبعدها قلت: «وكذلك الأمر في حالة «الردة» عن «الإسلام»، نجد أن معظم المنكرين لعقوبة
الردة «في الدنيا»، يستدلون بقوله تعالى…»، وجئت بالآيات التي «تعودنا سماعها» من المنكرين لوجود عقوبة في الدنيا على المرتد.
وبعد ذلك اتبعت أصول البحث العلمي، وقلت:
«فتعالوا نستعرض الآيات التي تحدثت عن ردة المؤمنين»
وذكرت الآيات، ثم قلت:
«والآن تعالوا إلى الآية التي نصت على عقوبة المرتد في الدنيا».
ثم ذكرت نص الآية «٧٤» من سورة التوبة، وهي قوله تعالى:
«يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ»
ويبدو، من تعليقات الأصدقاء على المنشورين السابقين، أن الموضوع كان محرجًا جدًا للبعض، وغير واضح للبعض، وفرصة ليخرج البعض ما في نفوسهم من البغضاء نحوي، لذلك سأحاول بيان الموضوع في نقاط:
أولا:
عندما تبدأ الآية بكلمة «يَحْلِفُونَ»، فعلى متدبر القرآن أن يتوقف عندها، ولا يحاول فهم الآية، حتى يعلم من هم الذين «يَحْلِفُونَ».
لقد خاطب الله النبي في الآية التي قبلها مباشرة «٧٣»، بقوله تعالى:
«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»
فإذا تدبرنا سياق الآيات التي قبلها، نعلم أن المحور الأساس لهذه الآيات هو بيان مكائد «المنافقين» وكذبهم وغدرهم.
فمثلا، كان المنافقون يسخرون ويستهزئون من النبي، وكان المؤمنون يستعجبون من فعل المنافقين «المسلمين»، ويسألونهم كيف يقولون بهذه الأقوال الكفرية وهم «مسلمون»؟!
وجاءت الإجابة في «الآيتين ٦٥- ٦٦»:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ (كَفَرْتُمْ) بَعْدَ (إِيمَانِكُمْ) إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ (نُعَذِّبْ) طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا (مُجْرِمِينَ)»
ثانيا:
ثم جاءت الآية «٧٤» تكشف عن وجه آخر من وجوه النفاق، وهو إظهار الكفر بـ «القول»، هذا الكفر الذي كشفه الله لنبيه، وكان المنافقون يُظهرونه، وعندما واجههم النبي به، كان هذا موقفهم:
«يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا، وَلَقَدْ قَالُوا (كَلِمَةَ) الْكُفْرِ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ»
ولقد كشف الله لرسوله، أن المنافقين كانوا يُخطّطون لإيذائه، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك، فقال تعالى:
«وَهَمُّوا بِمَا (لَمْ يَنَالُوا)»
ثم فتح الله للمنافقين باب التوبة:
«فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ»
وإن أصروا على نفاقهم:
«وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ (عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا) وَالآخِرَةِ»
ومن سياق الآية «٧٤» نعلم، أن الانتقال من «الإسلام»، إلى «الكفر» يقع بـ «القول»:
«وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ – وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ»
أي أن المنافقين كفروا «بعد إسلامهم»، بسبب الأفكار والأقوال الكفرية، التي كانوا يتحدثون بها فيما بينهم.
«وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا، وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ»
ثالثا:
إن الأفكار والأقوال الكفرية، التي خرجت على لسان المنافقين، والتخطيط لإيذاء المؤمنين، ثم لم يستطيعوا تنفيذ ذلك:
«(وَهَمُّوا) بِمَا (لَمْ يَنَالُوا)»
هي التي استحقوا على أساسها «العذاب الأليم»، ذلك أن الاعتداء المسلح على المؤمنين، أو على الرسول، له عقوبات يقوم بتنفيذها ولاة الأمور، قد نصت عليها آيات أخرى، منها «الآية ٣٣» من سورة المائدة.
أما في سياق الآية «٧٤» من سورة التوبة، فإن الله لم يفوض أحدًا في عذاب المرتدين، إذا لم يتوبوا عن كفرهم وخداعهم وكيدهم للمؤمنين، فقال تعالى:
«وَإِنْ يَتَوَلَّوْا (يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ) عَذَاباً أَلِيماً (فِي الدُّنْيَا) وَالآخِرَةِ»
وإن صور العذاب الإلهي كثيرة، منها ما أشار القرآن إليه، ونجد له واقعًا في حياتنا، فنحن نرى أناسًا «يتمنون» الموت، من هول ما يسببه له هذا العذاب، الذي يقول الله عنه، في نفس سياق الآيات «الآية ٥٥»:
«فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم،ْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ (لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا) فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ (كَافِرُونَ)»
فانظر وتدبر قوله تعالي:
«وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ»
أي أن المرتدين سيظلون في هذا «العذاب الإلهي» حتى الموت، «وَهُمْ كَافِرُونَ».
رابعا:
بتدبر سياق جميع الآيات التي تحدثت عن «الردة»، نعلم أن لـ «الردة» في السياق القرآني، مفهومًا واحدًا فقط، وهو خروج من ادعى الإيمان، وأظهر الإسلام، من «الإسلام»، إلى «الكفر».
إن الباحث الذي يعلم أصول البحث العلمي، ويريد أن يتحدث عن «الردة في السياق القرآني»، لا يصح أن يتناول بعض الآيات التي تخدم توجهه الفكري، لإثبات بطلان ما جاءت به الروايات الخاصة بـ «قتل المرتد»!!
إن عقوبة «قتل المرتد»، التي افتراها أئمة السلف، لا يقول بها باحث مؤمن مسلم درس أحكام الشريعة القرآنية.
كما أن عدم تضمن أي دراسة خاصة بـ «الردة في السياق القرآني»، للآية الوحيدة المبينة بوجود عذاب إلهي في الدنيا للمرتد، «يصل به إلى حد الموت»، جهل بأصول البحث العلمي، وبعلم السياق، وبأحكام الشريعة القرآنية.
إن «المرتد» عندما يعلم أن «المعيشة الضنك» التي يعيش بداخلها هي بسبب فتنة الأولاد، أو الأموال، حتى أننا نسمع من يقول «يا رب خدني وريحني»، هنا قد يُفكر أكثر من مرة في التوبة، إذا علم أن هذا «الضنك»، قد يكون بسبب «ردته».
«فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ» – «وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»
«أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»
محمد السعيد مشتهري