على الطريق (3)
سفينة «التفرق في الدين» إلى أين؟!
«الردة» في الشريعة القرآنية
عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان، وحرية الفكر، وأن الأفكار تواجه بالأفكار، وليس بالسجن والتعذيب والقتل، فأنا في مقدمة شعوب العالم المدافعة عن هذا الحق، وعن هذه الحرية.
وعندما يتعلق الأمر بـ «الدين» الذي ارتضاه الله للناس، وبملة «الوحدانية»، وبأحكام «الشريعة القرآنية»، ثم أرى تفرقًا في الدين، وجهلًا بمفهوم الوحدانية، وتحريفًا لأحكام الشريعة، فسأقف مدافعًا عن هذا الدين، ولو حاربتني الشعوب كلها.
وعندما نقوم بدراسة أحكام الشريعة القرآنية، ينبغي أن نتناول آيات الموضوع الواحد، ولا تقتصر دراستنا على بعض الآيات، تفاديا للاستنتاجات الخاطئة.
فعلى سبيل المثال، يقول الله تعالى:
«وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ، وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَلَا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا..»
نفهم من سياق الآية، أنه لا عقوبة «في الدنيا» على من قتل النفس التي حرم الله قتلها، ولا عقوبة على الزاني، لأن السياق لم ينص على عذاب في الدنيا.
وهذا فهم غير صحيح، لأن العقوبات التي نصت على عذاب الدنيا جاءت بها آيات أخرى.
وكذلك الأمر في حالة «الردة» عن «الإسلام»، نجد أن معظم المنكرين لعقوبة الردة «في الدنيا»، يستدلون بقوله تعالى:
«وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى (يَرُدُّوكُمْ) عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا، وَمَنْ (يَرْتَدِدْ) مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ (وَهُوَ كَافِرٌ) فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»
وبقوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً، لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً»
إن الله تعالى يحذر المؤمنين من الكفر، ويُبيّن لهم أن من استجاب لفتنة الكافرين، وارتد عن دينه، ومات على ذلك، مات كافرًا، مخلدًا في النار، ففهم «المفكرون المستنيرون» أنه لا عقوبة ولا عذاب «في الدنيا»، على «الارتداد» عن الإسلام.
فتعالوا نستعرض الآيات التي تحدثت عن «ردة» المؤمنين:
١- «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ (يَرُدُّونَكُمْ) مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ»
إن الله تعالى يحذر المؤمنين «مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ»، الذين يريدون إخراجهم من الإيمان إلى الكفر، بعد أن تبين لأهل الكتاب الحق، «مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ».
فما هو هذا «الحق» الذي تبيّن لـ «أهل الكتاب»؟!
وهل هذا «الحق»، هو تفرق المسلمين في الدين، إلى فرق ومذاهب عقدية، يُكفر بعضها بعضا؟!
إن «كتاب الله» الخاتم هو «الحق»، الذي حمل «الآية القرآنية»، الدالة على صدق «نبوة» الرسول، وذلك قبل ظهور الفرق والمذاهب العقدية، وطبعا منها المذهب «الأشعري»، مذهب «مؤسسة الأزهر».
إن «كتاب الله» هو «الحق» الذي من أنكر آياته، وما حملته من أحكام الشريعة، كان مرتدًا كافرًا، إن كان أصلا قد دخل الإسلام.
٢- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ (يَرُدُّوكُمْ) بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»
«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»
إن الله تعالى يحذر المؤمنين من طاعة فريق من «الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ»، الذين يريدون إخراج المؤمنين من الإيمان إلى الكفر، ويأمرهم بالتقوى، والموت على «الإسلام».
وهنا نلاحظ، أن الحكم بـ «الردة»، لا وجود له إلا إذا كفر «المسلم» بـ «آيات الله» المتلوة، بعد أن ادعى الإيمان، وأظهر الإسلام.
ولقد ربط سياق الآيات بين «الردة»، وبين أمر الله للمؤمنين بالاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق.
فهل أطاع المسلمون ربهم، ولم يتفرقوا إلى فرق ومذاهب عقدية مختلفة؟!
٣- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا (يَرُدُّوكُمْ) عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ»
وهذا تحذير من الله للمؤمنين، من طاعة «الَّذِينَ كَفَرُوا»، فيرتدوا على أعقابهم، وينقلبوا خاسرين.
٤- «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. إِنَّ الَّذِينَ (ارْتَدُّوا) عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي (بَعْضِ الأَمْرِ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ»
ويخاطب الله المنافقين الذين أظهروا إسلامهم، وأقرّوا بصدق القرآن، ولم يتدبروه، وبعد أن تبين لهم الهدى، قالوا بأقوال الكافرين، وعملوا بأعمالهم، فانكشف حالهم للناس.
ونفهم من الآيات أن الله لم ينزل على رسوله نصًا تشريعيًا يكفر منكره، ويرتد المسلم إذا كفر به، غير النص القرآني «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ».
وخلاصة القول، أن مفهوم «الردة»، في الآيات الأربع السابقة، يتعلق بالمؤمنين، الذين أظهروا إسلامهم، ثم أنكروا آيات «القرآن»، أو حرّفوا معنى كلماتها التي نزلت بلسان عربي مبين، أو تلاعبوا بأحكام الشريعة.
والآن تعالوا إلى الآية التي نصت على عقوبة المرتدين «في الدنيا»، فقال تعالى:
٥- «وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ (وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا (فِي الدُّنْيَا) وَالآخِرَةِ»
إن الله تعالى يُخبر «الذين كفروا بعد إسلامهم»، أنه سيعذبهم «عَذَابًا أَلِيمًا» في الدنيا قبل الآخرة، إن هم لم يتوبوا عن كفرهم.
أما متى يحدث لهم هذا العذاب «في الدنيا»، وآليات حدوثه، فأنا لا علم لي بذلك، وإنما الذي أعلمه هو:
أنه عندما لا يحمل المسلم منهجًا علميًا يفهم به نصوص أحكام «الشريعة القرآنية»، لا شك أنه سيقع في فهم عشوائي لأحكام القرآن، وفي تناقضات لا حصر لها.
وهذا ما أراه يوميا على صفحات أصحاب القراءات المعاصرة والمستنيرة، وعلى صفحات أصحاب بدعة «القرآن لا يُفهم إلا بالقرآن»، الذين بقولهم هذا يشهدون على أنفسهم، أنهم لم يدخلوا الإسلام بعد، ولقد بيّنت ذلك في المنشور السابق.
ولقد ظهر هذا التناقض جليًا، وظهرت هذه «العشوائية الدينية»، في مداخلة «إسلام بحيري» مع عمرو أديب أمس «٦- ٥- ٢٠١٧»، بخصوص اتهام رئيس جامعة الأزهر له بـ «الردة»، ثم إقالة شيخ الأزهر لرئيس جامعة الأزهر.
إن ظاهرة «إسلام بحيري» والذين على منهجه قديما وحديثا، تعتبر فتنة كبرى، شاء الله أن تظهر وتنتشر بين الناس، في الداخل والخارج، بهذه الصورة السريعة الغريبة اللافتة للنظر.
إن فتنة «إسلام بحيري» لا تقل خطورة عما كان يحدث في «الفتن الكبرى»، التي ترك الله فيها المسلمون يتقاتلون، ويسفك بعضهم دماء بعض، وكانت النتيجة:
فتنة أكبر وأعظم، وهي فتنة «التفرق في الدين».
لقد ولد المفكرون المستنيرون، والعصريّون، قبل «إسلام بحيري» بقرون، وكانوا من أتباع فرقة «أهل السنة»، وتربوا على مائدتها الدينية، ومنهم من قُتل رميًا بالرصاص، ولم يتغير من أمهات كتب فرقة أهل السنة سطر واحد.
إن المفكرين المستنيرين، والعصريّين، ومنهم «البحيري» يركبون مع السلفيّين سفينة واحدة، اسمها سفينة «التفرق في الدين»:
«الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»
ويوجد في هذه السفينة، مكان خاص لكل فرقة من الفرق الإسلامية، وهذا المكان ينقسم إلى أجزاء بعدد التوجهات المذهبية العقدية التابعة للفرقة.
ويحمل الجزء المخصص لكل فرقة «أحزاب المعارضة»، فنجد داخل المكان المخصص لفرقة «أهل السنة»، أصحاب القراءات القرآنية المعاصرة، والمستنيرة، والقرآن وكفى، ولكن «إسلام بحيري» قال ما لم يقله أحد منهم.
إن «إسلام بحيري» هو الوحيد، من بين ركاب سفينة «التفرق في الدين»، الذي يرى أن شمس «الإسلام» الحق ستشرق، عندما تستجيب «مؤسسة الأزهر» لمطالبه.
إن «إسلام بحيري» يرى، أن تجديد الفكر الإسلامي، «طبعا هو يقصد تجديد الفكر السني»، لن يحدث إلا بتغيير قيادات مؤسسة الأزهر، أما «الأزهر» نفسه، كمؤسسة دينية، فهو يحترمها ويرحب بها.
يا جماعة الخير … إصلاح أزهر إيه … وتجديد إيه … وتنقية إيه …، وقراءة معاصرة إيه … وبخاري إيه … وكُليني إيه … وفقهاء مذاهب إيه …، وأنتم أصلا تعلنون على الهواء مباشرة قبولكم لـ «السنة النبوية»، كمصدر تشريعي، وهو أصلا مصدر مفترى على الله ورسوله؟!
ما علاقتك أنت، يا من صدّقت بدلائل الوحدانية، وبـ «الآية القرآنية» الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، واتبعت أحكام «الشريعة القرآنية»، ما علاقتك بسفينة «التفرق في الدين»؟!
إن كثيرًا من الشباب، وغير الشباب، فُتنوا بالقراءات القرآنية المعاصرة والمستنيرة، وببدعة «القرآن وكفى»، وأصبحوا اليوم يعيشون على هواهم، بلا ملة ولا دين، وقد حذرت خلال السنوات الماضية من هذه الفتنة.
لقد أذاع «إسلام بحيري» مئات الحلقات على القنوات الفضائية، كان ينقد وينقض فيها ما في أمهات كتب فرقة «أهل السنة»!!
وعندما سُجن، فإن الذي سجنه علماء «أهل السنة» من مؤسسة الأزهر!!
وعندما اتُهم بـ «الردة»، فإن الذي اتهمه هو رئيس «جامعة الأزهر»!!
والذي أقال رئيس جامعة الأزهر، هو شيخ الأزهر!!
وسواء كانوا من التراثيين «المدافعين» عن أمهات كتب فرقة «أهل السنة»، أو من «المعارضين» القرآنيين العصريين المستنيرين، الذين يحاربون أمهات كتب هذه الفرقة، فإنهم جميعا يركبون سفينة «التفرق في الدين»!!
والسؤال:
إذا كان مفهوم «الردة» هو الارتداد عن «الإسلام» بعد دخوله، بقول أو فعل مُكَفِّر، فهل لا يدخل في حكم «الردة»، ما فعله المسلمون بعد وفاة النبي، من «تفرق في الدين»، وسفك للدماء بغير حق، وقد حذرهم الله من هذا التفرق، فقال تعالى لرسوله:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً … مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ … مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»؟!
فكيف يحكم من يركبون سفينة «الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً»، بالردة على من يركبون معهم، وكلهم يركبون سفينة «التفرق في الدين»؟!
سؤال محيّر!!
محمد السعيد مشتهري