إن أعظم المنكرات: تحريف «مسميات» كلمات الله (15)
«مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»
إن نصوص «الآية القرآنية» منظومة كونية عالمية متكاملة، لا تنفصل كلماتها عن مقابله الكوني، فهي نسيج مترابط متناغم، يعطي لكل كلمة عطاءها، حسب السياق الذي وردت فيه.
كثير من المسلمين يفهمون كلمة «الكتاب»، في قوله تعالى:
«مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»
على أنه «القرآن»، تماما كما يفهمون قوله تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ»!
وهل كلمات «الكتاب» قد بيّنت كل شيء موجود في العالم، قديمًا وحديثًا؟!
إننا عندما نرفع راية «القرآن تبيانٌ لكل شيء»، وأن الله لم يفرط في الكتاب من شيء، ويسألنا سائل:
أين في القرآن بيان التقنيات والآليات الحديثة التي تعمل اليوم على أساسها «شبكات التواصل الاجتماعي»، فبماذا نجيب؟!
عندما نقرأ قوله تعالى:
«وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ»
نجد أنها تشير إلى بعض الألوان، كالأبيض والأحمر والأسود، فهل لو لم نتعرف على هذه الألوان خارج القرآن، كنا سنفهم سياق الآية؟!
إن وجود الألوان مجردة، سواء كانت مكتوبة أو مسموعة، لا تعني شيئًا إلا إذا كان لها صورة ذهنية في قلوبنا، وطبعا هذه الصورة تكونت خارج القرآن.
إذا كنا لا نعلم أن اللون الأحمر، في إشارات المرور، يعني التوقف التام، سنكون سببًا في إحداث مصائب، فكيف نقول إن «القرآن تبيانٌ لكل شيء»، وأن الله لم يفرط في الكتاب من شيء؟!
إننا لو تدبرنا السياق الذي وردت فيه جملة «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»، لوجدنا أنها جاءت للرد على الكافرين، في سياق بيان علم الله وقدرته:
«وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ»
إن أكثر الناس لا يعلمون فعالية قدرة الله في هذا الكون، وأن البشر ليسوا وحدهم هم الذين يعيشون فيه، فهناك «أمم» من المخلوقات لها عالمها الخاص، تأكل وتشرب وتتكاثر..، فقال تعالى بعدها:
«وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ»
فهل نرى في القرآن بيانًا وتفصيلًا لحياة هذه الأمم؟!
إن من بدهيات «علم السياق»، أن نبحث عن كلمة «الكتاب» في القرآن، ثم ندرس الآيات التي وردت فيها، لنقف على علاقتها بالآية محل البحث، فتعالوا نتدبر هذه الآيات:
* «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا، كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»
* «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»
* «عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ
إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»
* «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»
* «وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»
إننا إذا تدبرنا هذه الآيات، نعلم أن كلمة «الكتاب» لم تأت بمعناها الحقيقي الذي نعلمه، وإنما بمعناها «المجازي»، الذي يبيّن سعة علم الله الثابت الذي لا يتبدل ولا يتغيّر، في عالم الغيب والشهادة.
إن الأمثلة التي ذكرتها في المنشورات السابقة، والمتعلقة بأدوات فهم القرآن: «منظومة التواصل المعرفي»، «اللغة العربية»، «السياق القرآني»، ما هي إلا ورقة في عالم
«الدراسات القرآنية».
محمد السعيد مشتهري