إن أعظم المنكرات: تحريف «مسميات» كلمات الله (8)
«ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ»
إن أي إنسان يجد نفسه مسلمًا بالوراثة، ويعيد إسلامه على أساس «الآية القرآنية» الدالة على أن القرآن هو المصدر الإلهي الوحيد للتشريع، عليه أن يعلم، أن هذه «الآية» آية عقلية، لا تُفهم نصوصها إلا بـ «منهجية علمية»، و«أدوات معرفية»، من خارج القرآن.
في مرحلة وضع القواعد المنهجية لمشروعي الفكري، تبيّن لي من خلال دراسة الآيات «١٩٦-٢٠٣» من سورة البقرة، أن القول بالاكتفاء بالقرآن، باعتباره المصدر الوحيد للتشريع، قولٌ غير صحيح، فعندما أعجز عن فهم كلمة أو حكم من أحكام القرآن، «من داخل القرآن»، يجب أن أرفض منهج الاكتفاء بالقرآن.
لقد ارتبطت أحكام الصلاة وكيفية أدائها، ومناسك الحج وشعائره، بـ «المسجد الحرام»، فقد صلى فيه النبي والذين آمنوا معه، وأدّوا مناسك الحج وشعائره، ونقلتها لنا «منظومة التواصل المعرفي»، دون تبديل ولا تغيير.
أولا: المناسك والشعائر
المناسك هي الأماكن التي تؤدى فيها الشعائر، «العبادات»، وقد غلب إطلاقها على «أفعال الحج»، وأصلها يرجع إلى إبراهيم، عليه السلام:
«.. وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ… وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ… وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا…»
لقد بيّن الله لإبراهيم كيفية أداء المناسك، «وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا»، وظلت هذه «المناسك» معروفة للعرب، لم تتبدل ولم تتغير، وإنما الذي تغير وتبدل هو التوجه بالشعائر لغير الله، فبعث الله رسوله محمدًا للتصحيح:
«رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ… وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ (مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ»
ثانيا: ارتباط أحكام الصلاة ومناسك الحج بـ «المسجد الحرام».
١- في سياق بيان قبلة الصلاة:
«فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)»
٢- في سياق بيان مناسك الحج وشعائره:
«لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)»
ثالثا: لقد حفظ الله أماكن «مناسك» أداء الشعائر، منذ أن أدّاها إبراهيم وذريته «وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا»:
١- البيت الحرام
* «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ..»
٢- المسجد الحرام
* «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ»
٣- البيت العتيق
«ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ»
٤- الصفا والمروة
«إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا»
٥- جبل عرفات والمشعر الحرام
«فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ»
٦- ارتباط أداء المناسك بما كان يفعله الناس قبل بعثة النبي:
«ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ… فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ»
رابعا: جميع مناسك الحج، وكيفية أداء الصلاة ومواقيتها خلال أدائها، يستحيل أن نفهمه، ونتعلمه، دون الرجوع إلى الأماكن التي كانت تؤدى فيها هذه المناسك، وخاصة «المسجد الحرام».
١- سياق الآيات «١٩٦ ـ ٢٠٣»
لقد خاطب الله قومًا كانوا يعلمون معنى «الحج» وكيفية أدائه، ومعنى «العمرة» وكيفية أدائها، فعندما لا يأتي القرآن بالمعنيين، فماذا نفعل غير أن نقبل ما حملته لنا «منظومة التواصل المعرفي»؟!
لقد خاطب الله الذين آمنوا في عصر الرسالة بأحكام «الحج والعمرة» من قبل أن يقول لهم: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ»، مما يُبيّن أن سياق الآيات لم يكن سياق تشريع، وإنما تصحيحًا لتوجه العرب بالشعائر لغير الله أثناء أداء مناسكه:
* «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ… فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ، ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..»
وهنا نلاحظ أن السياق بدأ بقوله تعالى «وَأَتِمُّوا»، أي أن الله يحدثهم عن تفاصيل لأحكام الحج والعمرة، حتى بعد العودة إلى بيوتهم «وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ»، وكل هذا ورد قبل أن يقول لهم: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ».
كما نلاحظ أن السياق يُبيّن أن لأداء مناسك الحج ميقاتًا محددًا، يجتمع عنده الحجيج على صعيد واحد، دون تخلف، ونفهم ذلك من كلمة «إلى» في قوله تعالى: «فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ»، أي أن هناك توقيتًا معلومًا يبدأ عنده أداء المناسك يجب عدم تجاوزه:
«لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ»
ولما كانت العمرة غير محددة بوقت معين، جاء السياق يلفت النظر إلى أن لمناسك الحج وقتًا «يعلمه العرب» يجب الالتزام به، مع تصحيح الأخطاء التي كانوا يفعلونها أثناء «الإحرام بالحج»:
* «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ…».
إننا إذا تعاملنا مع جملة «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ» بالمعنى الظاهري، فهذا يعني أن تؤدى مناسك الحج في مساحة زمنية تستغرق «أشهرًا»، وهذا غير صحيح، إذ «الأشهر» ليست ذاتها «الحج»، وإنما المقصود «الحج (في) أشهر»، وهذا ما بينته الجملة التي بعدها: «فَمَن فَرَضَ (فِيهِنَّ) ٱلْحَجَّ».
إن قوله تعالى: «فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ»، يُبيّن أن من أحرم بالحج «من بيته»، خلال هذه الأشهر «المعلومة»، بشرط أن يصل إلى «مكة» قبل ميقات بدأ مناسك الحج، فعليه أن يلتزم خلال رحلته بشروط الإحرام «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ».
خامسا: لقد ذكر الله خمسة أماكن لأداء شعائر الحج، سبق الإشارة إليها، ولم يُبيّن مواقعها الجغرافية، وفي أي بلد توجد، فمن أين عرف المسلمون مكان «عرفة»، و«المشعر الحرام» في قوله تعالى:
* «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ»؟!
ونلاحظ أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمعنى «الإفاضة» من كتاب الله، أي ماذا يفعل الحجيج استجابة لقوله تعالى «ثُمَّ أَفِيضُوا»، لا يأتون بهذا المعنى «وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً».
لذلك جاء بعدها بالبرهان على حجية «منظومة التواصل المعرفي» في بيان كيفية أداء جميع أحكام الشريعة التي جاءت مجملة في كتاب الله، وفي مقدمتها كيفية أداء «الصلاة» ومواقيتها، التي لا شك أنها كانت تقام خلال فترة أداء مناسك الحج، فتدبر:
* «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ… فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ..»
ثم يستكمل السياق بيان باقي المناسك:
* «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ…»
فكيف نهدم ما حملته «منظومة التواصل المعرفي» من بيان لما أجمله القرآن من أحكام، حفظ الله «مسميات» كلمات آياتها، كهيئة الصلاة المتصلة الحلقات بما كان يؤديه المؤمنون في «المسجد الحرام»، وكذلك مناسك الحج، وكيفية أداء شعائره، كما حفظ «اللسان العربي» الذي حملته مراجع «اللغة العربية»، ليستطيع الناس فهم الكلمة القرآنية وتفاعله مع مقابله الكوني؟!
أما مسألة «رمي الجمرات»، التي حملتها «منظومة التواصل المعرفي»، فلا يوجد في القرآن أي إشارة إليها، باعتبارها منسكًا من مناسك الحج، وكما هو مُبيّن في فصل «منظومة التواصل المعرفي»، بكتاب «المدخل الفطري إلى الوحدانية»، فإن هذه المنظومة قد حملت الحق والباطل.
وإن من أكبر المصائب التي حلت بمنظومة «الفكر الإسلامي»، بجميع توجهاته، أن نجد:
إما تقديسًا لكل ما حمله «التراث السلفي» للفرق والمذاهب المختلفة من مرويات!
وإما هدمًا لها ومعها «مسميات» الكلمة القرآنية المتعلقة بأحكام الشريعة، بدعوى أنها توافق ما يفعله «السلفيّون»!
وإما إرادة «تنقيتها»، فيؤمنون بمنظومة «الشرك بالله»، ولكن مع تنقيتها!
محمد السعيد مشتهري