نحو إسلام الرسول

(713) 12/4/2017 يسألون عن القرآن (4)

إن أعظم المنكرات: تحريف «مسميات» كلمات الله (4)

أنا لم أنزل من السماء حاملًا مشروعي الفكري

بعد رحلة طويلة بين أمهات كتب الفرق والمذاهب الإسلامية، دَوّنت خلالها آلاف الصفحات التي تحمل مئات الإشكاليات التي تهدم حجيتها، كشريعة إلهية واجبة الاتباع، تركت الإيمان الوراثي القائم على «الرواية»، واتبعت الإيمان العلمي القائم على «الآية».

ومن أكبر التحديات التي واجهتني، أني ابن إمام «أهل السنة والجماعة»، وكان يعمل أيضا مديرًا عامًا للوعظ بالأزهر، فكنت كلما نشرت مقالًا أبين فيه للناس «الفريضة الغائبة»، وأن الإيمان بوجود مصدر تشريعي إلهي غير القرآن سيفتح أبواب جهنم لاستقبال المسلمين في الدنيا قبل الآخرة..، قامت الدنيا ولم تقعد.

لقد عرضت على والدي، أن أرسل الدراسة التي أعددتها، والتي حملت مئات الإشكاليات حول المصدر الثاني للتشريع، إلى كبار علماء الفرق الإسلامية، فلم يُمانع، وبعدها قامت الدنيا ولم تقعد، فكيف يُنكر ابن إمام أهل السنة «السنة النبوية»؟!

لقد وصلتني خلال هذه الفترة تهديدات بالقتل، الأمر الذي جعل الوالد، في «١٤- ٤- ١٩٨٨م»، ينشر في الصحف الرسمية بيانًا قال فيه، إن الدراسة التي عن «حجية السنة كمصدر تشريعي»، تم عرضها على هيئة كبار العلماء لإبداء الرأي، وعلينا أن ننتظر حتى تنتهي الهيئة من إصدار قرارها.

وكان من الذين أعطيتهم هذه الدراسة الشيخ محمد الغزالي، الذي نشر عام «١٩٨٩م»، في كتابه «السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث»، بعض ما حملته هذه الدراسة من إشكاليات، فقامت الدنيا ولم تقعد، واستحلت بعض الجماعات السلفية دمه بدعوى «إنكار السنة»..، فقررت أن أفعل شيئًا.

لقد طلبت من والدي الاتصال برئيس لجنة الفتوى «الدكتور عبد الله المشد»، لتحديد موعد لمقابلته، وفي اللقاء عرضت عليه نتائج هذه الدراسة، وبعض الإشكاليات التي حملتها، وطلبت منه ضرورة التصدي بكل قوة لفتاوى التكفير واستحلال الدماء بغير حق.

طلب مني الدكتور المشد أن أترك له الدراسة ليناقشها مع أعضاء لجنة الفتوى، وأن أرفق معها سؤالا يُبيّن ما هو المطلوب من لجنة الفتوى، لتقوم بالرد عليه بصورة رسمية، وكان السؤال:

ما حكم من أنكر «استقلال السنة» بإثبات الإيجاب والتحريم؟!

وفي أول فبراير عام «١٩٩٠م»، جاء رد لجنة الفتوى على النحو التالي:

«وعلى هذا، فمن أنكر استقلال السنة بإثبات الإيجاب والتحريم، فهو منكر لشيء اختلف فيه الأئمة، ولا يُعد مما علم بالضرورة، فلا يُعد كافراً».

وعند إعطائي هذه الفتوى للشيخ الغزالي، لم يُصدق أنها صادرة عن مؤسسة الأزهر، مع أنه شاهد «ختم النسر» عليها أكثر من مرة، ثم قام بنشرها في كتابه «تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل – الفصل التاسع – على هامش السنة».

لقد تشربت قلوب المسلمين قضية التكفير وسفك الدماء بغير حق، منذ أحداث الفتن الكبرى، يوم تفرقوا إلى فرق ومذاهب عقدية يُكفر بعضهم بعضا، وتاريخ هذه الفرق خير شاهد عليها.

لقد حذرت خلال الثمانينيات والتسعينيات، من اتخاذ المصدر الثاني للتشريع دينًا إلهيًا واجب الاتباع، وكنت أنشر المقالات، وأقيم الندوات، التي لو أنها سُجلت لبلغت حلقاتها المئات، وكانت تدور حول محاور رئيسية منها:

١- جريدة الأحرار «٣-٥-١٩٩٣م»، مخاطبا علماء الأزهر:

«أمانة العلم تفرض عليكم حماية الشباب من التطرف الفكري، قبل التطرف الحركي، ولن يكون ذلك إلا إذا وضعت الأحكام الفقهية في مكانها الصحيح، وإلا فهو الجهل بعينه، فالشاب الذي يخرج من درس العلم ليحرق أو يقتل أو يخرب … مدفوع إلى ذلك بدافع الجهل لا بدافع العلم».

٢- جريدة الأحرار «٢٤-٥-١٩٩٣م»، من سلسلة المقالات التي كانت تُبيّن المصائب التي تُدرّس على طلبة المدارس الأزهرية «إعدادي»:

كتاب «تيسير نور الصباح»، إصدار الإدارة العامة للمعاهد الأزهرية، مقرر على طلاب الصف «الأول الإعدادي»، المذهب الحنفي، فصل في الاستنجاء:

«والاستنجاء هو إزالة النجاسة بالماء أو تقليلها بالأحجار، وهي سنة مؤكدة.. وإن تجاوز ولكن قدر (الدرهم) وجب إزالته بالماء.. وكيفية الاستنجاء أن يمسح بالحجر الأول من جهة المقدم إلى الخلف.. إذا كانت (الخصية) مدلاة.. ويصعد الرجل إصبعه الوسطى على غيرها في ابتداء الاستنجاء، ثم يصعد بنصره، ولا يقتصر على إصبع واحدة، والمرأة تصعد بنصرها وأوسط أصابعها معا ابتداء (خشية حصول اللذة)..»

ومما ذكرته في تعليقي على هذه المأساة:

لقد فاقت هذه المأساة ما يحدث في «البوسنة والهرسك»، بل وإن ما يحدث في «أفغانستان» مرتبط ارتباطا كبيرا بهذه المأساة.

٣- جريدة الأحرار «٧-٦-١٩٩٣م»، عن حرمة الدماء:

«لقد أصبحت حرمة الدماء في الواقع الإسلامي شيئًا هينًا، وقتل النفس بغير حق أمرًا عاديًا، واختل ميزان القصاص بظهور (المرويات) والأحكام التي تبيح للمسلم قتل الكافر غير المحارب دون قصاص، والحر يقتل العبد دون قصاص..، أليست هذه هي جذور (التطرف والإرهاب) بعينها؟!»

٤- جريدة الأحرار «٢٦-٧-١٩٩٣م»، شريعة على هوى أئمة السلف:

«لماذا تتهموننا بكراهية السلف إذا قمنا بتطهير تراث الأمة من الأباطيل والافتراءات التي لعبت السياسة والمذهبية دورًا كبيرًا في نشرها بين أفراد الأمة، عبر العصور، كدين واجب الاتباع؟!

ثم لماذا إذا قام عالم من علماء الأمة بتضعيف حديث صحيح، أو تصحيح حديث ضعيف، يُلقب بالمجدد المتحرر من أسر التقليد، فإذا قمنا نحن بذات العمل اتهمنا بإنكار السنة؟!»

٥- جريدة الأحرار «٤-١٠-١٩٩٣م»، عن حكم المرتد:

مسألة قتل المرتد غير المحارب، اخترعتها المذهبية العمياء لإبادة المخالفين في الرأي، الرافضين لاجتهادات عصور لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، ولا نسأل عما كانوا يعملون، ويأتي الأتباع المقلدون، فيبيحون سفك دم المخالف في المذهب ويعتبرون هذا القتل شرع الله.. ويالها من فتنة حين يقوم بعض علماء السعودية بتكفير عالم كبير كالشيخ محمد الغزالي واتهامه بالنفاق، وبعضهم اتهمه بالزندقة وطلب منه التوبة».

هذه مجرد فقرات لمحاور، حملتها سلسلة مقالات عام «١٩٩٣م»، وكانت الدنيا تقوم ولا تقعد، بصورة لا تقارن مطلقا بما يحدث اليوم مع بعض المفكرين الذين يطالبون بتجديد الخطاب الديني.

إن هناك من سجل «٣٠٠» حلقة تلفزيونية، في نقد ونقض تراث أهل السنة، شاهدها العالم عبر الفضائيات، ولم يمنعه أحد، حتى خرج عن أدب النقد، فسجن.

أما على عصري، فكان من يكتب مقالًا واحدًا في الهجوم على أئمة السلف، يكون قد دخل «عش الدبابير» برجليه، فلا يلومن إلا نفسه!!

إن الذين يظنون أن جهادهم في سبيل تنقية أو تجديد أو تغيير أمهات كتب التراث الديني سيحقق في يوم من الأيام أي ثمرة في واقع هذه الكتب، واهمون، وإن هم إلا يظنون.

لقد كان من بين الدراسة التي قدمتها لرئيس لجنة الفتوى، الدكتور عبد الله المشد، «٥٠٠» حديث في البخاري، يستحيل أن يقبلهم عاقل مهما كانت ملته.

لقد طلبت من رئيس لجنة الفتوى، الدكتور المشد، أن يعرض هذه الأحاديث على مجمع البحوث الإسلامية، فوعدني أن يعرضها في أول اجتماع.

وعندما اتصلت عليه للإطمئنان على النتيجة، قال لي بالحرف الواحد:

«يا ابن مشتهري إنت عايز تهد جبل اتبنى في ١٤ قرن»

قلت له: ماذا حدث يا مولانا؟!

قال: إن معظم أعضاء المجمع نظروا إليّ نظرة تعجب وريبة، وقالوا:

ألا تعلم يا شيخنا أن حذف كلمة واحدة من أي كتاب من الأمهات يشعل نار فتنة كبرى بين المسلمين، خاصة وأن كل هذه الكتب مترجمة بجميع اللغات، وموجودة في المراكز الإسلامية في دول العالم؟!

إن ما ذكرته سابقا كان هو المرحلة الأولي من مشروعي الفكري، حيث كنت أتوقع أن تنتفض المؤسسات الدينية عند دراسة الإشكاليات التي حملتها هذه الدراسة، وتُحدث على الفور تغييرًا حقيقيًا، ولكني وجدت العكس تماما.

إن «الآبائية» الدينية المذهبية، من الأشجار المعمرة، التي تمتد جذورها إلى عصر «الفتن الكبرى»، فمجنون حقا من يُضيّع ساعة من عمره في محاولة تحذير الناس من هذه الشجرة العملاقة، ويكفيه أن يقول لهم كلمة واحدة: إنها شجرة خبيثة.

لقد انشغلنا بالأقوال، عبر الكتب والمنشورات والبرامج العصرية والتنويرية، أما المؤسسات والمنظمات السلفية فقد انشغلت بالأفعال، والتغيير على الأرض.

لذلك لم أجد سبيلا لخروج «الذين آمنوا» من دائرة «الأقوال» إلى دائرة «الأفعال» إلا العمل على إيجاد نماذج لمجتمع «الإيمان والعمل الصالح»، وكان الأمل أن أجد استجابة لإقامة هذه النماذج في دول العالم، من خلال مبادرة «نحو إسلام الرسول».

ولكن يبدو أن المؤمنين المسلمين، يعيشون أصلا في مجتمع «الإيمان والعمل الصالح»، وأنا الذي أعيش خارجه.

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى