إذا طلب الأستاذ من الطالب أن يكتب موضوعًا عن «مفهوم الوحدانية»، فجاء بالقرآن، ولصق عليه ورقة بعنوان «مفهوم الوحدانية»، وأعطاه للأستاذ، وقال له هذا هو الموضوع، فهل يكون بذلك قد أدى ما طلبه منه الأستاذ؟!
فإذا سأل الأستاذ الطالب: وما علاقة آيات الأحكام وقصص الأنبياء…، بـ «الوحدانية»، فهل يصح أن يجيب الطالب: لأن الذي أنزلها هو «الله الواحد الأحد»!!
هناك من يتعاملون مع القرآن بنفس المنهج، فإذا طلب منهم أحد كتابة موضوع عن «الصلاة في القرآن»، أعطوه المصحف، وقالوا له إن «الصلاة» صلة بالله تعالى، ومحورها «الآيات القرآنية»، فعليك أن تدبر الآيات وقت «صلاة العشاء»، ووقت «صلاة الفجر»، فإن فعلت فقد تمت صلاتك.
والسؤال: كيف نتحدث عن موضوع «الصلاة في القرآن»، ولا نقول في مقدمة الموضوع، إنه بناء على عدم وجود آية واحدة في القرآن، تحمل مفهوم «الصلاة» التي أمر الله بإقامتها، فقد استعنا بالمصادر التالية لبيان مفهوم الصلاة، وكيفية إقامتها، ثم نذكر هذه المصادر؟!
إن جميع الآيات التي أمر الله فيها بـ «إقامة الصلاة»، وردت فيها كلمة «الصلاة» معرفة بأل، وجاءت «الصلاة» مفعولاً به، مما يدل على أن المخاطبين بهذا الأمر، كانوا يعلمون كيفية «إقامة الصلاة» قبل نزول هذه الآيات.
وعندما خاطب الله المؤمنين، في بيان آداب الاستئذان، بقوله تعالى:
«ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ (صَلاةِ الْفَجْرِ) وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ (صَلاةِ الْعِشَاءِ)»
فلا شك أن المؤمنين كانوا يعلمون معنى «صلاة الفجر»، و«صلاة العشاء»، من قبل أن تنزل هذه الآية، وذلك من خارج القرآن.
ولذلك أقول: إن الذي لا يعلم منظومة «الصلاة» في القرآن، بداية بـ «قبلة الصلاة»، كيف يتحدث عن «الصلاة في القرآن»؟!
يقول الله تعالى في سياق الحديث عن «قبلة الصلاة»:
«سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ (قِبْلَتِهِمْ) الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا… وَمَا جَعَلْنَا (الْقِبْلَةَ) الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا … فَلَنُوَلِّيَنَّكَ (قِبْلَةً) تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)».
فهل كان المؤمنون، يوم أن نزلت هذه الآيات، يعلمون ما هي «القبلة» من داخل القرآن، أم من خارجه؟!
وإذا كان المسلمون، منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، يولّون وجوههم شطر «المسجد الحرام»، أي شطر «الكعبة» التي هي «قبلة الصلاة»، فهل يفعلون ذلك استنادا إلى بيان القرآن لمكان هذا المسجد، وللكعبة التي بداخله، أم من «منظومة التواصل المعرفي» خارج القرآن؟!
إن القرآن لم ينزل بخريطة للقبلة، ولا ببيان كيفية الصلاة، ولا علاقة بين موضع تلاوة القرآن وتدبر آياته، بـ «إقامة الصلاة»، ذلك أن تلاوة القرآن، من حيث «أصول البحث العلمي»، موضوع مستقل بآياته، وإقامة الصلاة موضوع مستقل بآياته، وإلا جعلناهما موضوعًا واحدًا مادته القرآن كله، ثم نقول للناس: لا ترادف في القرآن!!
إن «الربانية» التي يجب أن يتصف بها كل «مؤمن» أسلم وجهه لله، والتي جاء جميع الأنبياء يأمرون الناس التخلق بها، هي تعليم ودراسة آيات القرآن، يقول الله تعالى:
«مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ»
إن المؤمن، الذي أسلم وجهه لله، يعلم أن عليه أن يقوم بدراسة وتدبر آيات الكتاب، ويقوم بتفعيلها في حياته، وقد وردت مئات الآيات في هذا الموضوع، ووردت عشرات الآيات الخاصة بفريضة الصلاة، فكيف نجعل مفهوم الصلاة هو تدبر آيات الكتاب؟!
إن تعليم ودراسة «آيات الكتاب» منهج حياة للمؤمن، ولا يوجد في كتاب الله آية واحدة تحدد لهذا المنهج مواقيت للعمل به، كما حدد الله لإقامة الصلاة والتسبيح مواقيت.
إن من أصول البحث العلمي، أن يبدأ البحث بتحديد المصطلحات المستخدمة في البحث، لذلك فلا يصح «علميا»، أن نتكلم عن موضوع «الصلاة في القرآن»، دون أن نبدأ حديثنا ببيان معنى الصلاة، ومن أي المصادر المعرفية جئنا بهذا المعنى، وإلا سقط البحث في مقبرة «العشوائية الفكرية».
محمد السعيد مشتهري