نحو إسلام الرسول

(689) 19/3/2017 الإسلام استسلام وتسليم لأمر الله

إن إبراهيم، عليه السلام، لم يأخذ ابنه بغتة ليذبحه، وإنما عرض عليه أولا ما رآه أكثر من مرة في منامه، فعلم إسماعيل أن الابتلاء له ولأبيه، فقال: «يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ».

لقد استخدم إسماعيل كلمة «افْعَلْ»، لحث أبيه على القيام بتنفيذ أمر الله بدون تردد، ثم زاد الحث بقوله: «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ».

إن إسماعيل لم يقل لأبيه «ستجدني إن شاء الله صابرًا»، وإنما «مِنْ الصَّابِرِينَ»، لأنه يريد التأسي بزمرة الصابرين الذين سبقوه.

لقد تساوى الأب والابن في التسليم لأمر الله، فلا نستطيع القول أيهما كان الأكثر خضوعًا واستسلامًا من الآخر:

(سابعا): «فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ»

يقول «الموسوي»: «أصبحا الآن مشترِكَينِ في الإذعان إلى نفس الرؤيا والاعتقاد.. فأسلما أمرهما لله تعالى وصارا يمارسان العمل سوية بصبر وأناة (يقصد العمل في بناء الكعبة) .. فهو بالنتيجة أمرٌ الهيّ .. والتسليم لله تعالى، ما أدى إلى جواب الشرط في العبارة التي لحقتها:
«وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ».

ثم قال: «فكانت النتيجة أنْ بلغ ارتفاع البيت إلى مستوى الجبين، فالضمير في «تَلَّهُ» يعود على البيت والبناء بأسره، وليس على إسماعيل والفاعل «إبراهيم»!!

وقال: «إنَّ وصول مستوى جدران البيت إلى مستوى «الجبين» لدى الإنسان بقامته المتوسطة يبدو أنَّه كان يعتبر في ذلك الوقت مستوىً ممتازاً، فهو يعني بأنَّ البيت شارف على الانتهاء والاكتمال»!!

* أقول: عندما يكون المحور الأساس للقصة كلها هو «البلاء المبين»، فهل يُعقل أن يكون هذا المحور هو رفع بناء «البيت الحرام» إلى مستوى جبين إسماعيل، أي منطق هذا؟!

إن كلمة «تلّه» من مادّة «تلّ»، وتعني المكان المرتفع، و«الجبين» أحد جانبي الوجه، فالوجه له «جبينان»، و«تلّه للجبين» أي وضع أحد جوانب وجه ابنه على مكان مرتفع من الأرض، بوضع الذبح المعروف من لدن آدم عليه السلام.

ولقد جاءت جملة «وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» لبيان مدى الانقياد الكامل، الذي تستسلم فيه الجوارح لأمر الله مع استسلام القلب، ولم يبق إلا البدء في عملية الذبح، وهنا ظهر للأب وللابن، أنه كان ابتلاءًا موضوعه «التصديق والتسليم»:

(ثامنا): «وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ»

يقول «الموسوي»: إن «واو» العطف هنا جاءت تربط بين الأمرين: «التلّ للجبين»، والمناداة «أنْ يا إبراهيم»، ويستشهد بما فهمه «سبيط النيلي» حول دور هذه «الواو»، في التفريق بين قوله تعالى عن أهل النار «حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا»، وقوله تعالى عن أهل الجنة «حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا».

يقول: «ففي حالات الحديث عن أمور مترابطة فيما بينها بطريقة منطقية متسلسلة أصلا، فإنّنا نستعمل «الواو»، بينما لا نستخدمها في حالات عدم وجود الرابط المنطقي».

ويستنتج من ذلك: وجود اتفاق مبني على أساس تحقق مقدار من العمل، سيؤدي بالنتيجة إلى المناداة بـ «يَا إِبْرَاهِيمُ»، أنّه قد صدَّق الرؤيا، كجواب للشرط الذي تضمَّنَ أمرين تحققا معا:

١- «تلُّ البيت إلى الجبين»

٢- «مناداة الملائكة لإبراهيم»

* أقول: إن ما بناه «الموسوي» على أساس «واو» العطف غير صحيح من أساسه، بالنسبة لقوله تعالى عن أهل النار «حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا»، فإن «الواو» حذفت هنا لبيان عنصر «المفاجأة».

فعندما يكون باب من الأبواب مغلقًا أمامك، ثم تراه يفتح فجأة في وجهك، لا شك أنك ستشعر بالرعب.

أما عند الحديث عن أهل الجنة، فجاءت «الواو» لبيان أن الأبواب كانت أصلا مفتوحة معدة لاستقبالهم.

فإذا نظرنا إلى «واو» العطف في قوله تعالى: «وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ» نجدها معطوفة على ما يجب تقديره منطقيًا، وهو: «تحقق تنفيذ الرؤيا كاملة»، أي:

«فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ»، و«تحقق تنفيذ الرؤيا كاملة»، «وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ»:

(تاسعا): «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»

يقول الموسوي: «لقد حوّل إبراهيم الرؤيا النظرية بالتنفيذ العملي إلى مصداق واقعي».

ثم يؤكد للمرة الثانية على أنها كانت «رؤيا شخصية»، فيقول: «وتلك الرؤيا التي كنتَ تفكِّرُ فيها كتصوّرٍ في ذهنكَ (يقصد إبراهيم) أصبحتْ الآن أمراً متحققاً في الواقع».

ويقول: لقد فسروا كلمة الرُّؤْيَا «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا»، على أنها «الْمَنَامِ»: «إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ»، فلماذا لم يقل قد صدقت «المنام»، خاصة وأن التعبير بـ «الرؤيا» يفيد الجدية والحقيقة، كما في قصة يوسف، ولذلك عندما كذبوه، واعتبروا أن «الرؤيا» ليست صادقة، وصفوها بانّها «أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ»، ولم يقولوا إنهم عاجزون عن تفسير «الرؤيا»!

* أقول: إن «المنام» قد حمل «رؤيا»، لقوله تعالى: «إِنِّي (أَرَى) فِي (الْمَنَامِ) أَنِّي أَذْبَحُكَ»، فالله يُبشر إبراهيم بنجاحه وابنه في الابتلاء، الذي رآه في منامه، كما أوحى الله لنبيه الخاتم محمد قائلا:

«إِذْ (يُرِيكَهُمْ) اللَّهُ فِي (مَنَامِكَ) قَلِيلاً»

إن قول الله لإبراهيم «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا» دليل على أن ما شاهده إبراهيم في منامه كان مقدمات الذبح، وليس الذبح نفسه، ولذلك لم يقل له «إني أرى في المنام أني ذبحتك»، وإنما «إني أذبحك»، أي رأيتك وأنا أضع السكين على رقبتك.

ولقد فهم إبراهيم وابنه أن هذه «الرؤيا» معناه الأمر بالذبح، ولذلك استسلما لتنفيذ الأمر، ولكن عندما اكتمل المشهد الذي رآه إبراهيم في منامه، جاءهما النداء: «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا»، ومعه البشرى: «إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»، وبيان المقصد الشرعي من «الرؤيا» وهو:

(عاشرا): «إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ»

يقول الموسوي: «إنَّ ما قام به إبراهيم لهو البلاء المبين، فكرة تسيطر عليه وتدفعه إلى وسط الصحراء، لتحقيق رؤيا أحسّ بانّها أمرٌ من الله تعالى وبذل لها كلَّ غالٍ ونفيس».

* أقول: يكفي أن نتدبر قوله: «فكرة تسيطر عليه وتدفعه إلى وسط الصحراء..»!!

(الحادي عشر): «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»

يقول الموسوي: لقد جرى وضع فداءٍ لكل ما قام به من جهود فجاء قول السماء: «إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ»، إنها طريقة السماء في جزاء المحسنين فقد ساعدناك في رؤياك.. وتسهيل العثور على التراب والأحجار، كل ذلك من أجل أنْ تتمكن من إنجاز رؤياك!!

* أقول: يكفي أن نتدبر قوله: «وتسهيل العثور على التراب والأحجار»، وقوله: «من أجل أنْ تتمكن من إنجاز رؤياك»!!

فهل هذه «منهجية علمية» في فهم القرآن؟! هل هذا منطق؟! أن يدور المحور الأساس للقصة على «البلاء المبين»، ثم يتضح أن هذا «البلاء المبين» في البحث عن التراب والأحجار؟!

ويقول: ولأنَّ إبراهيم قام بكل ذلك بمنتهى الإخلاص فقد جعلنا لعمله أجرا ولجهوده فداءا كبيرا، فقد جرى ترسيخ الحج كممارسة عبادية مستمرة إلى آخر الأديان، وصار الناس يذبحون أنفسهم في السعي لأداء فريضة الحج .. حتى يمارسوا تلك الشعائر التي ابتكرها إبراهيم.

تدبر قوله: «تلك الشعائر التي ابتكرها إبراهيم»!!

ويقول: «وهذا هو «الذِبح»، بكسر الذال، الذي يمثل الفِداء، وليس فقط ما يجري ذبحه من الأنعام في موسم الحج، وإنْ كان منه تطوعا طبعا، فالذِبْحُ هو مجمل عملية الحج المتعبة، وجزءٌ منها الهدي بإيِّ شكلٍ كان»

* أقول: إن قول الله تعالى «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» دليل على أن إبراهيم لم يذبح ابنه، لا في المنام ولا في اليقظة، وإلا فما معنى «الفداء»؟!

ثم إن قول الموسوي: «يذبحون أنفسهم في السعي لأداء فريضة الحج»، وقوله: «تلك الشعائر التي ابتكرها إبراهيم»، وقوله: «فالذِبْحُ هو مجمل عملية الحج المتعبة»..، جاء كنتيجة طبيعية لـ «المنهجية العشوائية» التي اتبعها في التعامل مع القرآن.

إن «الذِّبح»، بكسر الذال، هو الشيء «المذبوح»، فكيف يكون هو «مجمل عملية الحج المتعبة»؟!

إن «الذِبح العظيم» يجب أن يُفهم في إطار «مشيئة الله وحكمته»، التي قد لا نعلم عنها إلا ما نفهمه من السياق، حيث جاء الفداء بـ «الذِبح العظيم» من باب تأويل ما رآه إبراهيم في منامه، ووصفه الله بـ «عَظِيمٍ» تشريفًا له باعتبار ما نتج عنه من آثار.

ولا يشغلنا ما إذا كان هذا «الذِبح العظيم» هو «الأضحية» التي اعتاد المسلمون ذبحها في أول أيام عيد الأضحى أم لا، لأن القرآن لم ينص على ذلك، ومن فعلها من باب إطعام المساكين، فيثاب على فعله.

(الثاني عشر): «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ»

يقول الموسوي: «وكجزء من الجزاء للمحسنين فقد جرى ترسيخ هذه الشعائر في كل الأديان السماوية، وبقي ذكر إبراهيم مقترنا بها حتى آخر دين سماوي فبقي ذكره متروكا على الآخرين».

* أقول: إن الآية لا علاقة لها بـ «الشعائر»، ولا باقتران ذكر إبراهيم بها، ولو تدبر «الموسوي» سياق صورة الصافات، لعلم أن تخليد ذكرى إبراهيم جاء في سياق بيان جزاء «المحسنين».

إن «المحسنين»، الذين بلغوا درجة الكمال في الإيمان، والإسلام، والتسليم لقضاء الله، هؤلاء يضرب الله بهم المثل في التصديق القائم على الفهم الواعي لـ «الوحدانية»، وجعل الناس يُسلمون عليهم على مر العصور، فتدبر:

* «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ . سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ . إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»

* «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ . سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»

* «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ . سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ . إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»

* «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ . سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ . إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى