إن «اللسان العربي المبين»، الذي نزل به القرآن، هو كلام الله، الذي حمل «الأسماء والأفعال والحروف» العربية، التي كان ينطق بها لسان العرب، الذين بعث الله فيهم نبيه الخاتم محمدًا.
والله تعالى لا يخاطب الناس بكلمات، إلا إذا كانوا يعلمون مسمياتها، وصورها الذهنية التي تكونت في ذاكرتهم المعرفية، في عالم الشهادة الذي يعيشونه، من قبل إرسال الرسل.
ولقد تكونت الصور الذهنية لأعضاء جسم الإنسان، كاليد والوجه والعين، في ذاكرة المعارف العربية والعالمية، من خلال عالم الشهادة، لذلك لم يأمر الله الناس بفهم شيء من عالم الغيب، وإنما الإيمان به وبما ضربه عنه من أمثال.
إذن فعندما يقول الله تعالى عن رفض إبليس السجود لآدم:
«قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ – قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ – خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»
فإن كل كلمة في هذه الآية، قد سبق أن تكونت لها صورة ذهنية في قلوبنا، جعلتنا نفهم المعنى العام لهذه الجملة القرآنية.
وعندما يقول الله في نفس سياق الحديث عن رفض إبليس السجود لآدم:
«قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ – أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ»
فإن كل كلمة في هذه الآية، قد سبق أن تكونت لها صورة ذهنية في قلوبنا، جعلتنا نفهم المعنى العام لهذه الجملة القرآنية، ولكن:
إن كلمة «اليد» التي كان ينطق بها لسان العرب، وتنطق بها الألسن الأعجمية، هي عضو من أعضاء جسم الإنسان، فهل فهم الرسول والذين آمنوا معه أن لله تعالى جسمًا وأعضاءً؟!
وإذا كان الرسول، والذين آمنوا معه، يعلمون أن الله ليس كمثله شيء، إذن فكيف فهموا معنى «اليد» في قوله تعالى لإبليس «لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ»، وهل فصَّل الله في القرآن وبيّن، الفرق بين «يد الله»، و«يد البشر»؟!
إن «اليد» التي وصف الله بها نفسه، وخاطب بها أهل اللسان العربي، جاءت بأسلوب يعلمونه جيدًا، ويستخدمونه في حياتهم اليومية، وهو ما يُسمى بالأسلوب «المجازي»، ومن ذلك قولهم:
«إن لفلان عندي يد»: أي فضل، و«مالك عليه يدٌ»: أي ولاية، و«له يد عند الناس»: أي جاه، و«أطول يداً منه»: أي أسخى، و«شمّر يد القميص»: أي كمّه.
وعندما تخبرنا مراجع اللغة العربية، أن العرب كانوا يستخدمون كلمة «اليد» بمعناها «المجازي»،
ويضربون لذلك الأمثال السابق ذكرها، ونرى أننا أيضا نستخدمها في حياتنا اليومية، فبأي منطق نرفض «المجاز» في القرآن؟!
نعم، لقد حملت مراجع «اللغة العربية» الحق والباطل، وإن من الحق الذي حملته «الأساليب المجازية»، التي تُعطي للكلمة دلالات أوسع وأبلغ، من تمثيل وتشبيه واستعارة، والتي لولاها لتصور الناس أن لله يدًا ووجهًا وعينًا، «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ».
إننا أمام «منهجية علمية»، تحمل أدوات لفهم القرآن، ويستحيل فهم القرآن بمعزل عنها، وها هي قضية تتعلق بملة الوحدانية، تحتاج كي نفهمها ونقف على حقيقتها، إلى الاستعانة بما حملته مراجع اللغة العربية من حق بيّن ومُبين.
لقد عرف أهل اللسان العربي في عصر التنزيل «اليد» بمعناها الحقيقي والمجازي، ثم تفرق المسلمون إلى فرق ومذاهب عقدية متصارعة، سفك بعضهم دماء بعض، بسبب الخلاف حول الحقيقة والمجاز، بين الإثبات والنفي.
ولذلك لم يكن غريبًا أن نجد بعض المذاهب العقدية تقول، للهروب من مأزق تأويل الأسماء والصفات: «نحن نصف الله بما وصف به نفسه، ولكن بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعلمها».
ويبدو أن هؤلاء القوم لا يعلمون أن الله يخاطبهم بكلمات عربية، يحملون «مسمياتها» في ذاكرتهم العربية، التي عرفوها وهم في عالم «الشهادة»، فما معنى أن يقولوا: «بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعلمها»؟!
إن الذي دفع ثمن الخلافات العقدية بين الفرق والمذاهب المختلفة، هم العامة من المسلمين، التابعين المقلدين بغير علم، الذين لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يتدبرون.
فإذا كانت كلمة «اليد» قد أتت في السياق القرآني بالمعنى المجازي في أهمية قضية تتعلق بملة «الوحدانية»، فقد جاءت بالمعنى الحقيقي في سياق بيان أحكام «الشريعة القرآنية»، ومثال ذلك قوله تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ»
فهل هناك عاقل يمكن أن يفهم «الوجه»، و«اليد»، و«المرفق» في هذا السياق، بمعناها «المجازي» ويقول إن «اليد» تعني القدرة والبطش والكرم والسخاء؟!
إذن فكيف استطاع المؤمنون المسلمون، أصحاب التوجهات القرآنية والعصرية والمستنيرة، أن يُفرّقوا بين «اليد» التي خلق الله بها آدم، و«اليد» التي وردت في سياق بيان الأعضاء واجبة الغسل، إلا إذا استعانوا بعلوم اللغة العربية؟!
وعندما تُذكر «اليد» في سياق بيان عقوبة الإفساد في الأرض، ويُبيّن الله أن «السرقة» من العقوبات المتعلقة بالإفساد في الأرض، ويبدأ السياق ببيان العقوبات بوجه عام، فيقول تعالى:
«… وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً – أَنْ يُقَتَّلُوا – أَوْ يُصَلَّبُوا – أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ..»
ثم يأتي بعدها ببيان أن «السارق والسارقة» ممن يجب أن تُقطع أيديهم، وذلك من باب تفصيل ما أجمله في قوله تعالى «أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ»، وجاء بواو العطف لنفهم أن هذه العقوبة معطوفة على ما سبق من عقوبات الإفساد في الأرض، فقال تعالى:
«وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا»
فبأي منطق، وفي أي ملة، يمكن أن يقع الخلط بين المفهوم الحقيقي لـ «اليد»، الوارد في آية الوضوء وآية الإفساد في الأرض، والمفهوم المجازي لها، الوارد في عشرات الآيات القرآنية، ومنها ما يتعلق لملة الوحدانية، ونقول إن «قطع اليد» معناه منعها من السرقة؟!
إن الذي يتعامل مع القرآن باعتباره كتابًا إلهيًا فقط، سيَضل ويُضل، لأنه لم يدخل الإسلام من باب التصديق بـ «الآية القرآنية» التي حملها هذا الكتاب، والدالة على أن هذا القرآن هو «كلام الله».
أما الذي يتعامل مع القرآن باعتباره كتابًا إلهيًا، يحمل «الآية القرآنية» الدالة على صدق من أنزله، وصدق من بلغه، ودخل الإسلام من هذا الباب، فإنه سيهتدي ويهدي، ولكن:
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ – لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ – لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
محمد السعيد مشتهري