نحو إسلام الرسول

(625) 30/1/2017 عندما يتقاتل «اللسان» مع «لغته العربية»

إن الوقوف على «دلائل الوحدانية» يحتاج إلى علم، «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ»، والوقوف على أن آيات الآفاق والأنفس حق أيضا يحتاج إلى علم، «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ»، بكسر اللام، وتدبر نصوص «الآية القرآنية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد أيضا يحتاج إلى علم، «وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ»، بكسر اللام.

إن اختلاف «ألسن الشعوب» آية من آيات الأنفس، لا يقف عليها إلا الذين قاموا بتفعيل «آليات عمل القلب»، آلية التفكر، والتعقل، «وَمَا يَعْقِلُهَا»، والتدبر «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»، وهم «العلماء» الذين يحملون «المنهجية العلمية» التي تمكنهم من الوقوف على «الآية» في «اختلاف الألسن».

أولا: اللسان «آلة النطق»، «آلة الكلام»، عضو من أعضاء الجسم

في سياق بيان دلائل الوحدانية، وما يحمله الإنسان من هذه الدلائل «أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ . وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ»، يفرض السؤال نفسه: هل بيّن الله وفصّل في القرآن، ما هي هذه الأشياء التي جعلها للإنسان، «أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ»، وكيف يعرفها الإنسان، أم تعلمتها شعوب العالم، في طفولتها، عن طريق «منظومة التواصل المعرفي – العالمية»؟!

وهل بيّن الله وفصّل في القرآن، لماذا ذكر «الشفتين» مع «اللسان»، وهل يمكن أن ينطق «اللسان» بدون الشّفتين، أو تنطق «الشفتان» بدون «اللسان»، أم يستحيل انفصالهما؟!

وهل عندما قال الله لرسوله محمد، «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ . إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ»، وقال موسى لربه، «وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي»، هل كان الحديث عن «اللسان»، الذي هو آلة النطق، أم عن «الكلام» الصادر عن اللسان والشفتين، بدليل «لِتَعْجَلَ بِهِ – يَنْطَلِقُ لِسَانِي»؟!

لذلك فمن الجهل «المركب»، أن نتحدث عن «اللسان العربي» ونقصد به «الكلام العربي» الصادر عن الإنسان، دون معرفة الحكمة من ذلك، لأن «اللسان» وحده بدون «شفتين» لا ينطق بالعربية أو بغيرها من اللغات، واختلاف ألسن الشعوب، «وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ»، لا يعني اختلاف «آلة النطق»، وإنما اختلاف «اللغات» التي ينطق بها اللسان «آلة النطق».

ومن منطلق هذه «المنهجية العلمية»، في تدبر القرآن، علينا أن نبحث عن حكمة استخدام السياق القرآني «اللسان»، للتعبير عن «الكلام» الصادر عن الإنسان دون ذكر «الشفتين».

ثانيا: «علم البيان» وأزمة «أهل القرآن»

إن ما تَميّزت به اللغة العربية، عن غيرها من لغات الشعوب، «علم البيان»، هذا العلم الذي يملك وحده مفتاح فهم الحكمة من استخدام السياق القرآني «اللسان»، الذي هو «آلة النطق»، للتعبير عن الكلام الصادر عنه، هذا العلم الذي هو المكون الرئيس لـ «لسان العرب»، ثم جاء فقهاء وأئمة «اللغة العربية» ودوّنوه في الكتب، خشية ضياعه.

إن ما دوّنه علماء «اللغة العربية» في كتبهم، لم يأت من وحي الخيال، وإنما من واقع الحياة العلمية والمعرفية والثقافية التي كانوا يعيشون بداخلها، وليس معنى أن هذه المراجع قد وصلتنا من خلال «منظومة التواصل المعرفي»، التي حملت الحق والباطل، ألا تكون قد حملت من «الحق» ما يضمن فاعلية فهم نصوص «الآية القرآنية» واستنباط أحكامها إلى يوم الدين.

لذلك فإن الذين فرّقوا بين «لسان العرب» واللغة العربية، «أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ»، لأن السياق القرآني عندما تحدث عن قوم إبراهيم «فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ»، كان يستحيل أن يخاطب الله العرب بهذا التعبير البلاغي «عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ»، وهم لا يعلمون أنه أسلوب من أساليبهم البيانية «المجازية»، فكما أن العين آلة الإبصار «لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ»، فإن «اللسان» آلة الكلام «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي»، وهو ما يُسمى في علم المجاز بـ «الآلية».

لقد قام فقهاء وأئمة «اللغة العربية» بتوثيق أساليب العرب البلاغية، تحت عنوان «علم البيان»، ومنها «المجاز»، وهو التعبير عن الشيء باسم «الآلة» التي يحصل بها، فكيف يُنكر مسلم عاقل حجية هذا التوثيق اللغوي بدعوى أن كلمة «اللغة» من «اللغو»؟!

لذلك نلاحظ إنكار أصحاب «القراءات القرآنية الشاذة» لكل ما حمله «علم البيان» من أساليب بلاغية يستحيل فهم القرآن بمعزل عنها، وخير شاهد على ذلك جميع المنشورات السابقة، فلماذا أنكروها؟! لتخلو لهم الساحة الفكرية الدينية، ليعبثوا بأذهان المساكين «علميا»، من غير نكير!

لقد ورد «اللغو» في كتاب الله بمعنى «الكلام الخطأ غير الصحيح»، فقال تعالى: «بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ»، «لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ»، «وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً»، وعن أهل الجنة «لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً»، وكل «لغة» من لغات الشعوب تحمل الحق والباطل، وليست كلها «لغوا».

إنه يستحيل أن يفهم أي إنسان القرآن دون أن يكون على دراية بـ «منظومة المعارف العربية»، التي استقرت في قلوب العرب، قبل نزول القرآن، ونقلتها «منظومة التواصل المعرفي» على مر العصور، وفي مقدمتها «علم البيان»، فيستحيل أن يقول الله «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»، ولا يحفظ هذا «القرآن العربي» بأساليبه البيانية، للعقلاء لعلهم يفقهون.

ثالثا: إن القانون العام هو «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ»، ولسان قوم النبي محمد كان ينطق بـ «العربية» التي نزل بها القرآن، «قُرْآناً عَرَبِيّاً»، «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»، ولكن يعقلون ماذا؟!

يعقلون أن هذا القرآن، «كتاب الله» الذي حمل «الآية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، «أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ»، والحجة القائمة بين الناس إلى يوم الدين، لم ينزل بلغات البشر، وإنما نزل باللغة التي كان ينطق بها العرب، لأنها أفضل اللغات لحمل نصوص «الآية القرآنية»، رسالة الله الخاتمة للناس جميعًا، إلى يوم الدين.

إنه لفرق كبير، بين أن يقول الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ»، فيكون الحديث عن «اللسان» وليس عن الرسالة، وأن يقول تعالى: «وما أرسلنا من رسول إلا لقومه»، فيكون الحديث عن إنزال «الرسالة» ولكن لقوم الرسول فقط!

إن إنزال نصوص «الآية القرآنية» حجة على الناس جميعًا إلى يوم الدين، وبـ «لسان العرب»، ليس معناه أنها «آية» للعرب خاصة، كما يفهم «الجهلاء» الذين يتعاملون مع كتاب الله باعتباره «كتابًا إلهيًا» فقط، وليس «آية إلهية» قائمة بنصوصها العربية بين الناس إلى يوم الدين، «قُرْآناً عَرَبِيّاً»، فأين نذهب بقوله تعالى «تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً»، وبقوله تعالى «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ»، و«إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ»؟!

عندما تقوم الحجة على أهل اللسان العربي في عصر الرسالة «لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ»، ثم على المسلمين جميعًا إلى يوم الدين، «وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ»، تصبح مسؤولية إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتفعيل نصوص «الآية القرآنية» بينهم، بـ «اللسان العربي المبين»، هي مسؤولية المسلمين المؤمنين.

إن معصية المسلمين لله تعالى، وهجرهم القرآن، واتخاذهم مصادر تشريعية ما أنزل الله بها من سلطان، وقد حذرهم الله من ذلك «وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ»..، وإعطاء ظهورهم لإقامة الشهادة على الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور..، يستحيل أن تتحمل مسؤولية ذلك كله «اللغة العربية» التي نطق بها «لسان العرب»، والتي كان على كل مسلم أن ينشرها بين الناس ويعلمهم إياها، وإلا كيف يدخلون الإسلام بلغة «أعجمية»؟!

رابعا: إننا نرى اليوم معظم من يحملون المؤهلات الدراسية العليا، لا يستطيعون قراءة آية واحدة من القرآن قراءة صحيحة، فكيف سيفهم «المساكين» من مستخدمي شبكة الإنترنت العالمية «النص القرآني»، وهم يجهلون «اللغة العربية» وعلومها، وقواعدها، التي هي المكون الأساس للنص؟!

كيف سيصل «المفكرون الإسلاميون» بمشاريعهم الفكرية المختلفة إلى العالمية، ومعظم الذين يُعجبون بهذه المشاريع من «الجهلاء»، والأمّيّين»، الذين صنعوا بجهلهم هذا «نجومًا» ما كان لهم أن يظهروا في سماء العلم، بل وأصبحوا هم الذين يمدّون منظومة «التطرف الديني» بزادها، والجماعات الجهادية والإرهابية بوقودها، ويدّعون أنهم يحاربون الإرهاب!!

أيها «المفكرون الإسلاميون»، السلفيون والعصريون والمستنيرون، أنتم الذين صنعتم «الإرهاب والتطرف الديني» في بيوت الناس، وفي بيوت المسلمين الذين انقطعت صلة أبنائهم تمامًا بـ «اللغة العربية»، بجهلكم بما يجب أن تَدْعُون الناس إليه، وما يجب أن يكون دائما في مقدمة أجندتكم الفكرية، وهو بيان حقيقة «الوحدانية»، وقدسية «النبوة»، ومفهوم «الآية القرآنية»، القائمة بين الناس اليوم بلا فاعلية، وليس بهذا «الهوس الديني»، و«التخلف العلمي» الذي يحمله المسلمون ويسبحون به في هواء الفضاء، ليل نهار!

نعم: «فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى