في «٢٦ ـ ١١ ـ ٢٠١٦»، أي منذ شهر، كتبت منشورا بعنوان: «لماذا لا يتبعون منظومة التواصل المعرفي»، وجئت بـ «٩٣» آية هي مجموع الآيات التي وردت فيها كلمات «الصلاة، صلاة، صل».
والمتدبر لهذه الآيات يجد أنها لم تبيّن مفهوم الصلاة، ولا كيفية إقامتها، لذلك توجهت في نهاية المنشور بسؤال إلى الذين يدّعون أن «الصلاة» تُقام بلا هيئة، من قيام وركوع وسجود: «هل عرفتم كيف تصلون بعد تدبركم لهذه الآيات؟!»
ومضى شهر، ولم يخرج علينا أحد، يُبيّن للناس كيف استنبط من هذه الآيات الـ «٩٣»، مفهوم «الصلاة» التي يدعو المسلمين إلى «إقامتها».
لقد تركوا الـ «٩٣» آية، وذهبوا يتحدثون عن «الذكر»، و«التسبيح»، والأخلاق الحميدة، والأعمال الصالحة، والتواصي بالحق…، وكلها مسائل لها سياقاتها الخاصة بها وأحكامها، ولا علاقة لها بفريضة «الصلاة» وإقامتها.
لقد أمر الله المؤمنين بإقامة: «الصَّلاةَ ـ والوجه ـ والدين ـ والوزن ـ والشهادة».
والسؤال: هل يصح أن نبحث مفهوم «إقامة» شيء، قبل أن نعلم ما هو هذا الشيء الذي سنقيمه؟!
وبناء على هذه القاعدة المنطقية، فما هو مفهوم «الصلاة»، وهل ورد في كتاب الله، أم تعلمناها من مصدر معرفي خارج كتاب الله؟!
إن «الصلاة» اسم، ولا يوجد في كتاب الله معناه، ولا وصف لمسماه، وليس أمامنا إلا أن نستعين بحلقات التواصل المعرفي، الممتدة إلى عصر النبي محمد، عليه السلام، وإلى «المسجد الحرام»، و«المسجد النبوي» تحديدا؟!
فتعالوا نتعرف أولا على قصة «المسجد الحرام»، ثم بعد ذلك نتحدث عن كيف تواصلت حلقات «الصلاة»، التي أمر الله المؤمنين بإقامتها، إلى يومنا هذا.
أولا: يقول الله تعالى:
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
لقد دعا إبراهيم، عليه السلام، ربه أن يجعل من ذريته «أمة مسلمة»، وأن يبيّن لهم مناسكهم، وأن يبعث فيهم رسولا منهم، فكان محمدًا عليه السلام.
ثانيا: المناسك «وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا» جمع منسك، وهو اسم المكان الذي تؤدى فيه العبادات، وهو البيت الذي رفع إبراهيم، عليه السلام، قواعده، والذي قال الله عنه:
«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ»
و«حج البيت» فريضة من فرائض الشريعة القرآنية، ومنسك ينطلق من هذا البيت الذي رفعه إبراهيم، عليه السلام، على أرض اسمها «بكة»، الموجودة في بلد اسمها «مكة»، قال تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً»
ثالثا: ومن العبادات التي دعا إبراهيم ربه أن يُبيّن له مناسكها، إقام «الصلاة»، التي أقامها هو وذريته في نفس «البيت الحرام»، قال تعالى:
«رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ»
لقد كانت «الصلاة» التي أقامها إبراهيم، عليه السلام، وذريته في «البيت الحرام»، «اسما ومسمى»، قال تعالى:
«وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ، أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً، وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ».
إن الطواف حول البيت، والقيام، والركوع، والسجود، أعمال وهيئات ومسميات لعبادات كانت تُقام في البيت الحرام، ويراها الناس، ولا شك أن منها إقام «الصلاة»، لقول إبراهيم، عليه السلام: «رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ».
لذلك فإن هذه الآية برهان قطعي الدلالة، على أن الصلاة يجب أن تُقام بهيئة، من قيام وركوع وسجود، وإلا ماذا تُسمى هذه الأعمال «الْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» التي كانت تُقام في البيت الحرام؟!
رابعا: لقد جعل الله تعالى البيت الحرام «المسجد الحرام» قبلة النبي، والذين آمنوا معه، في صلاتهم، فقال تعالى:
«قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ..»
ومنذ عصر الرسالة الخاتمة، وإلى يومنا هذا، والمسلمون أتباع جميع الفرق الإسلامية، بجميع مذاهبهم العقدية المتخاصمة المتقاتلة، وما يحملونه من مصادر تشريعية ما أنزل الله بها من سلطان..، يُقيمون الصلاة في «المسجد الحرام»، قياما وركوعا وسجودا، وقبلتهم هي «الكعبة»، ولم يحدث في يوم من الأيام أن تبدلت أو حُرّفت هيئة الصلاة.
فإذا نظرنا إلى مساجد العالم، منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، نجد أن المسلمين يقيمون الصلاة، بنفس الهيئة والكيفية، وبنفس عدد الصلوات، وعدد الركعات، وفي نفس المواقيت، كما كان يفعل رسول الله والذين آمنوا معه.
بل وإن الجماعة الإسلامية الأحمدية، «القاديانية»، التي هي في نظر جميع الفرق الإسلامية ليست جماعة إسلامية، وإن كانت في الحقيقة هي واحدة منها، لأنها تقوم في الأصل على «رواية»، هذه الجماعة تقيم الصلاة في جميع مساجدها المنتشرة في العالم بنفس الهيئة التي حملتها «منظومة التواصل المعرفي» للمسلمين جميعًا.
إن ما سبق بيانه، هو البرهان قطعي الدلالة، على حجية ما أسميه بـ «منظومة التواصل المعرفي»، بالنسبة لمسألة الصلاة وإقامتها، على كل من أقر بأصول الإيمان، ودخل في دين الإسلام.
خامسا: هناك من يقولون إن المفكر عليه أن يطرح مشروعه الفكري، ولا يلتفت إلى مشاريع غيره، سواء اتفقوا معه أو اختلفوا، ولا يُضيّع وقته في الرد على تعليقات الأصدقاء، لأن الباحث عن الحقيقة يستطيع أن يُميّز بين الحق والباطل.
١- الحقيقة أن هذا الكلام، وإن كان يبدو للبعض صحيحًا، إلا أنه في ميزان «الدين الإلهي» ليس كذلك، فدين الله ليس ترفًا فكريًا، ويقوم أساسًا على فريضة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وقد قدمها الله على «الإيمان بالله»، لبيان مدى أهميتها، فقال تعالى:
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»
بل وجاءت فريضة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، بعد فريضة «الولاء الإيماني» التي هي «فكر وعمل جماعي» وقبل الأمر بـ «إقام الصلاة»، فقال تعالى:
«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ…»
٢- أمام هذه المنظومة القرآنية المتعلقة بـ «اسم» الصلاة و«مسماها» و«إقامتها»، والمتصلة الحلقات بـ «المسجد الحرام»، وبـ «المسجد النبوي»، اتباعًا لملة إبراهيم، عليه السلام، يقف من قال الله فيهم «أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ»، ويقولون إنها منظومة باطلة لأنها تتبع تراث الآباء، فهم لا يعلمون الفرق بين التراث الفكري البشري، والحقائق التاريخية التي نص عليها القرآن، وحفظها الله بحفظه للنص الذي أشار إليها، وهذا هو مفهوم «منظومة التواصل المعرفي».
٣- إن الذين يكفرون بحلقات التواصل المعرفي الممتدة إلى «المسجد الحرام»، وإلى «المسجد النبوي»، وضعوا أولا قواعد فكرية أقاموا عليها مشاريعهم الفكرية الباطلة، ليس فقط فيما يتعلق بالصلاة، وإنما بجميع أحكام الشريعة، حتى وصل بهم الأمر أن جعلوا مفهوم «المسجد» هو الوزارة الحكومية!!
٤- إن الذين يكفرون بحلقات التواصل المعرفي الممتدة إلى «المسجد الحرام»، وإلى «المسجد النبوي»، ويقولون إن الصلاة تُقام بلا هيئة، هؤلاء يقولون منكرا من القول وزورا، ويجب على كل مؤمن أسلم وجهه لله، أن ينهاهم عن هذا المنكر، ولا يأخذ منهم فكرًا دينًا مطلقًا، وإلا كان مثلهم، فهؤلاء ليسوا أمناء على دين الله تعالى.
محمد السعيد مشتهري
ملاحظة هامة:
حسب شروط التعليق على منشورات الصفحة، أرجو من الأصدقاء الذين يختلفون معي فيما ورد في المنشور، أن تحمل تعليقاتهم:
أولا: الجملة أو الكلمة محل الخلاف
ثانيا: البرهان من كتاب الله الدال على وجهة نظرهم