هناك من يرى أن المفكر عليه أن يطرح مشروعه الفكري، ولا يلتفت إلى مشاريع غيره، سواء اتفقوا معه أو اختلفوا، ولا يُضيّع وقته في نقد المختلفين.
وهذا الكلام إن صح في برامج التنمية البشرية، وإدارة المشروعات التجارية والتسويقية..، لا يصح في دين الله تعالى، الذي يقوم على منظومة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، فتدبر:
«لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»
وماذا نقول، عندما تجد أن الله قدم وجوب العمل بـ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» عن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال تعالى:
«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»
إن «التفرق في الدين» منكرٌ يجب النهي عنه، بالليل والنهار، ولقد ورد في سورة الروم بنص قطعي الدلالة، يُحذر المسلمين «الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً» من الوقوع في «الشرك»، إن هم ماتوا على تفرقهم هذا.
فإذا جاء المفكرون الإسلاميون، المستنيرون والعصريون، يطالبون بتنقية التراث الديني الخاص بالفرقة التي تربوا على مائدتها الفكرية من كل ما يُسيء إلى «الإسلام، والقرآن، والسنة النبوية»، فهذا منكر يجب النهي عنه، لأن هؤلاء ينطلقون من قاعدة «التفرق في الدين»، قاعدة التحذير من الشرك.
أولا: في أوائل الثمانينيات، وقفت على حقيقة هذا المنكر الذي يجب النهي عنه، وكنت مهتما بهدم «وليس تنقية» ما يُسمى بالمصدر الثاني للتشريع، عند فرقة أهل السنة والجماعة»، وكتبت عشرات الدراسات في نقض هذا المصدر من قواعده.
وفي يوم ذهبت إلى د/ عبد الله المشد، رئيس لجنة الفتوى، بـ «٣٠٠» رواية «لا تصح» في صحيح البخاري، فوعدني بعرضها على مجمع البحوث الإسلامية، وبعد العرض قال له أعضاء المجمع:
إن جميع أمهات كتب التفسير والحديث والفقه، منتشرة في جميع أنحاء العالم، ومترجمة بمعظم اللغات، ويستحيل تغيير كلمة واحدة منها، لأنها ستكون «فتنة»، تُخرج الناس من الدين كله.
ثانيا: بعد اتساع دائرة البحث والدراسة، وجدت أن هذا المنكر قد أصاب أيضا أمهات كتب الفرق الإسلامية الأخرى، فبدأت في دراسة ونقض هذه الكتب، وأضفت ما توصلت إليه من نتائج إلى الدراسات السابقة، وقمت بتوزيع أجزاء منها على بعض المفكرين، وعلماء الأزهر.
ثم قامت الدنيا ولم تقعد، «تعبير مجازي»، مما جعل الوالد في «١٤ / ٤ / ١٩٨٨» يُصدر باسمه بيانًا في الصحف الرسمية حول هذا الموضوع، سبق نشره على هذه الصفحة في أكثر من مقال.
وفي أواخر الثمانينيات، أصبح المنكر، بالنسبة لي، هو أن يُضيّع المسلم وقته في نقد أو نقض المصادر التشريعية للفرق والمذاهب العقدية المختلفة، فأين البديل الذي سيحل محل إسلام المسلمين الوراثي، بعد أن تسقط من قلوبهم هذه المصادر التشريعية التي قام عليها؟!
ثالثا: بعد سنوات قررت أن أطبع هذه الدراسة لتوزيعها على بعض كبار علماء كل فرقة من الفرق الإسلامية، وكانت في ثلاثة أجزاء بعنوان «نحو تأصيل الخطاب الديني»، وقام مجمع البحوث الإسلامية بمصادرتها، ونشرت جريدة الحياة قرار المصادرة في عددها ١٥٢٣٤ ديسمبر ٢٠٠٤م.
وفي «٢٩ / ٥ / ٢٠٠٥» تم القبض علىّ تنفيذا لقرار المصادرة، وبعد شهر أفرجوا عني، دون تحويل الملف إلى نيابة أمن الدولة، أي ليس هناك قضية، ولكن لماذا؟!
لأنه خلال هذا الشهر، كانت تُجرى معي تحقيقات حول موضوعات هذه الدراسة، بتوجيه الأسئلة، وعليّ أن أجيب، وفي مرة طلبت أن أسأل، فسمحوا لي، قلت:
هل تعلمون أن هذه الدراسة، التي يتم التحقيق معي بشأنها، والتي صادرها مجمع البحوث الإسلامية، التابع لفرقة «أهل السنة والجماعة»، لا تخاطب أصلا فرقة أهل السنة، وإنما تخاطب جميع الفرق الإسلامية؟!
رابعا: ودون دخول في تفاصيل هذا الحوار، فقد سألني المحقق في نهايته: هل لديك مانع أن تأتي لجنة من مؤسسة الأزهر لمناقشتك في هذه الدراسة؟!
قلت: لقد ذكرت لكم أن هذه الدراسة لا تخاطب فرقة من الفرق الإسلامية بعينها، فإذا أردتم مناقشتي فيها، فيكون ذلك أمام لجنة من علماء ينتمون إلى هذه الفرق الإسلامية التي أخاطبها.
وبعد أن عجزت جهات التحقيق عن تشكيل هذه اللجنة لمناقشتي، لعدم قبول علماء الفرق المختلفة مواجهتهم بما في أمهات كتبهم من مصائب عقدية، وليست فقط تشريعية، يُكفّر أصحابها بعضهم بعضا، أفرجوا عني.
خامسا: في «١٧ /٤/ ٢٠١٥»، دار حوار بين الأزهري والجفري والبحيري، وفي «٢٠ / ٤ / ٢٠١٥» كتبت مقالا بعنوان «أزمة الأزهري – الجفري – البحيري»، قلت فيه:
«إن الأزهري والجفري والبحيري، يبحرون جميعًا في مركب واحدة، ترفع راية التراث الديني لفرقة «أهل السنة والجماعة»، مع اختلاف بينهم في كيفية التعامل مع نصوص هذا التراث: هل بالهدم، أم التنقية، أم التجديد».
وبالأمس، «١٣/١٢/٢٠١٦»، أكد «البحيري»، في حواره مع عمرو أديب، ومن قبله مع معتز الدمرداش، أن إسلامه يقوم على وجوب تنقية أمهات كتب الفرقة التي ينتمي إليها، وهي فرقة «أهل السنة والجماعة»، من كل ما يخالف القرآن!!
لذلك رأيت أن هذا منكر يجب النهي عنه بكتابة هذا المنشور، لأن «البحيري» مازال يبحر بإسلامه في أمواج أزمة «التفرق في الدين» المتلاطمة، ويحسب أنه يُجاهد ويؤذى في سبيل الله!!
سادسا: في «١٧-٤-٢٠١٦م» أصدر «مرصد الأزهر» بيانا يتهمني فيه بإنكار السنة، ردا على مقال نشرته في جريدة «المقال»، بتاريخ «٢٢-٥-٢٠١٥م»، بعنوان «السنة حقيقة قرآنية في عصر النبوة وبعدها اجتهادات أئمة».
ولقد قمت بالرد على هذا البيان في خمسة مقالات، منشورة على موقعي، بالكلمة والصورة، قلت لهم في المقال الأول ما يلي:
«إنني، كاتب هذا المقال، لم يحدث أن وجهت خطابي لفرقة من الفرق الإسلامية، إلا على سبيل ضرب المثل، لبيان مشكلة عامة تتعلق بجميع الفرق، ذلك أن مشروعي الفكري يخاطب أتباع الفرق الإسلامية جميعهم، ولو كان علماء «مرصد الأزهر» على دراية بهذا الأمر، ما أجهدوا أنفسهم في الرد على أي شيء يتعلق بمشروعي الفكري، إلا بعد تشكيل لجنة من علماء الفرق الإسلامية التي أخاطبها».
سابعا: إن الذين يتصورون أن انشغالهم بنقد أو نقض التراث الديني لأي فرقة من الفرق، أو للفرق جميعها، عملٌ في سبيل الله، هؤلاء واهمون، لأن ما يقومون به ينطلقون فيه من قاعدة «التفرق في الدين، وهي قاعدة «التحذير من الشرك»، التي انطلقت منها جميع الفرق الإسلامية منذ قرون.
إن المشكلة أننا لا نقرأ إلا أمهات كتب الفرقة التي ننتمي إليها، ولكنني عندما قرأت أمهات كتب الفرق الأخرى، استطعت أن أقف على مئات الشبهات القاتلة الموجهة إلى فرقة «أهل السنة والجماعة».
وكذلك هي الشبهات القاتلة التي يطلقها «أهل السنة والجماعة» في وجه باقي الفرق، فكل فرقة تحمل من البراهين الدالة على أنها الفرق الناجية، وباقي الفرق في النار، ما يستطيع أي مسلم أن يقوم بتسجيل آلاف الفيديوهات، وليس فقط المئات.
ثامنا: لذلك فإن أول فتنة سيتعرض لها «المسلمون»، بعد كفرهم بالإسلام الوراثي القائم على المصادر التشريعية الثانية، هي فتنة الكفر بالقرآن نفسه، وأنا أعرف الكثير ممن وقعوا في هذه الفتنة، لأنهم لم يَجِدوا بديلا يعيشون الإسلام من خلاله.
فماذا يفعلون بالمصحف الذي يحلمونه في أيديهم، غير أنهم يقرؤونه، وماذا يفعلون بالدراسات والبحوث القرآنية، المستنيرة والعصرية، التي يقرؤونها، وماذا يفعلون بالإعجاز العلمي في القرآن، الذي يشاهدونه؟!
تاسعا: إن معظم المسلمين، «على أرض الواقع»، ينتمون عاطفيا إلى آلاف المؤسسات الدينية التي ترفع راية الإسلام، من مساجد، ومدارس، ودور حضانة، وخدمات اجتماعية، ومستشفيات، ومحلات تجارية، ومصانع، وسوبر ماركت..، وكلها كيانات تقوى وتقوى وتقوى يوما بعد يوم.
والسؤال: أين الكيانات الإسلامية التي يحمل أصحابها التوجهات القرآنية الصحيحة، التي تأخذ بأيدي المسلمين «نحو إسلام الرسول»، التي تجعل المسلم متفائلًا عندما يخلع ثوب الإسلام الوراثي، ويتعامل معها من أجل إقامة مجتمع حضاري، مجتمع «الإيمان والعمل الصالح»؟!
محمد السعيد مشتهري