يقول الله تعالى في سورة الزخرف:
«حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
أولا: إن «الكتاب الْمُبِين»، من أوله إلى آخره، جعله الله: «قُرْآناً عَرَبِيّاً»، فلا فرق بين «الكتاب والقرآن»، فآيات «الكتاب»، هي نفسها آيات «القرآن»، يقول الله تعالى في سورة الحجر:
«الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ»
ويقول تعالى في سورة النمل:
«طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ»
وفي ضوء قوله تعالى في سورة الزخرف:
«حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
نفهم أن العطف الموجود في آية سورة الحجر، وآية سورة النمل، هو ما يسميه أئمة اللغة العربية عطف «تفسير»، حيث وصف الله «الكتاب» أنه «مُبِين»، وكذلك «القرآن»، وأشار إلى «الآيات» بـ «تلك»، لإنزالها منزلة الحاضر المشاهد، وهو برهان قطعي الدلالة، على حفظ الله لهذه «الآيات»، ولمقابلها الكوني، إلى يوم الدين.
ثانيا: لقد جعل الله تعالى «الْكِتَابَ الْمُبِين»، «قُرْآناً عَرَبِيّاً»، وقال: «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»، و«التعقل» آلية من «آليات عمل القلب»، وكذلك آلية «التدبر»، قال تعالى:
«أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»
وأقفال القلوب يستحيل أن تُفتح إلا بـ «منهجية علمية» تحمل آليات وأدوات لفهم هذا «الْكِتَاب الْمُبِين»، الذي جعله الله «قُرْآناً عَرَبِيّاً».
ولقد أثبتت هذه «المنهجية العلمية»، من خلال تعاملها مع الآيات السابقة، سقوط ما يُسمى بالقراءات القرآنية المعاصرة، التي فرّقت بين «الكتاب والقرآن»، وما قامت عليها من اجتهادات وتشريعات ما أنزل الله بها من سلطان.
كما أثبتت هذه «المنهجية العلمية»، تهافت توظيف قوله تعالى «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ» لصالح أصحاب بدعة «القرآن وكفى».
وإن أخطر ما أفرزته بدعة «القرآن وكفى»، كفر أصحابها بما شهدت به مساجد العالم من كيفية إقامة «الصلاة»، ما يزيد عن أربعة عشر قرنا من الزمن، وحملته «منظومة التواصل المعرفي».
ثالثا: لقد بيّن الله تعالى في أول سورة البقرة، أن هذا «الْكِتَابِ الْمُبِينِ»، الذي جعله الله «قُرْآناً عَرَبِيّاً»، لا يفتح أبواب هدايته إلا للمتقين، فقال تعالى:
«الم . ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ».
ثم ذكر من هم، فقال تعالى:
«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ..»
إن قوله تعالى: «وَيُقِيمُونَ الصَّلاة»، هو أول حكم تشريعي يأتي بعد الإيمان بالغيب، أي بعد الإقرار بأصول الإيمان، التي بيّنها الله في سورة البقرة، وفي سورة النساء، فقال تعالى:
«وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً»
فهل يُعقل أن يأتي الأمر الإلهي بإقامة «الصلاة»، بعد الإقرار بأصول الإيمان مباشرة، ثم لا يُبيّن الله للمؤمنين كيف يقيمونها؟!
فهل كان رسول الله محمد، عليه السلام، من «المتقين»؟!
نعم، كان من المتقين، وهل «أقام الصلاة» مع الذين آمنوا معه؟!
لا شك أنه «أقام الصلاة» مع الذين آمنوا معه، وكانوا يقيمونها في المساجد؟!
وهل جاء القرآن ببيان كيفية إقامة «الصلاة»، التي صلاها الرسول والذين آمنوا معه، مع ورود كلمة «صلاة ـ الصلاة ـ صل»، في «٩٣» آية، كما ذكرت في منشور سابق بتاريخ «٢٦ / ١١ / ٢٠١٦»؟!
لم يأت القرآن ببيان كيفية إقامة أي هيئة من هيئات «الصلاة»، والهيئة الوحيدة التي تواصلت حلقاتها المعرفية عمليا عبر منظومة «المساجد»، هي الهيئة التي صلاها الرسول والذين آمنوا معه، من «قيام وركوع وسجود.
رابعا: لقد حفظ الله تعالى هذه «المساجد» وما يُقام فيها من خمس صلوات، وظل المسلمون، مع تفرقهم وتخاصمهم وتقاتلهم، يقيمون هذه الصلوات في المساجد إلى يومنا هذا.
والسؤال: هل استطاع أحد أن يخترق أو يُحرّف حفظ الله لهيئة «الصلاة»، التي أقيمت في «مساجد» العالم، خلال ما يزيد عن أربعة عشر قرنا من الزمن؟!
إن من مقتضى حفظ الكتاب، أن يحفظ الله كيفية أداء ما حمله النص القرآني «المجمل» من أحكام الشريعة، وفي مقدمة ذلك الأمر بإقامة «الصلاة»، ومن هذه الآيات التي وردت فيها كلمة «الصلاة»، والأمر بإقامتها، ما ورد في سياق الحديث عن «التمسك بالكتاب»، فقال تعالى:
«وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلٰوةَ»
وجاءت أيضا في قوله تعالى:
«إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ»
وجاء الأمر بـ «إقامة الصلاة» بعد الأمر بـ «تلاوة الكتاب»:
«ٱتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ»
فتدبر العلاقة بين الأمر بالتمسك بالكتاب، والأمر بإقامة الصلاة، فهل يُعقل أن يحفظ الله تعالى الكتاب، ولا يحفظ إقامة الصلاة، ويتركها لأصحاب القراءات المعاصرة؟!
إذن فعلى أي أساس شرعي، وبأي منطق علمي، يُنكر البعض ما حملته «المساجد» عبر «منظومة التواصل المعرفي» من كيفية إقامة «الصلاة» التي صلاها النبي والذين آمنوا معه، خاصة وأن «الْكِتَاب الْمُبِين»، الذي جعله الله «قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»، لم يأت ببيان هذه الكيفية؟!
خامسا: بعد أن عجزوا عن اكتشاف كيفية إقامة «الصلاة»، بعد تدبرهم لـ «٩٣» آية، وردت فيها كلمة «صلاة ـ الصلاة ـ صل»، ذهب البعض إلى آيات «التسبيح»، يستخرجون منها كيفية «الصلاة»، وذهب آخرون إلى بدعة «الإعجاز العددي» ظنًا منهم أنها ستنقذهم، فإذا بهم يغرقون معها في أمواج «العشوائية الفكرية».
وطبعا لقد قادتهم هذه «العشوائية الفكرية» إلى نتائج «عشوائية»، لأنهم وضعوا أمامهم عدد الصلوات، الـ «٥»، وعدد ركعاتها الـ «١٧»، وذهبوا إلى عمليات رياضية، وحسابات «التباديل والتوافيق» المعقدة، يُوظّفونها لتوافق حساباتهم ونتائجهم العدد الذي حملته «منظومة التواصل المعرفي»، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!!
ودون دخول في تفاصيل وبيان تهافت وعشوائية النتائج التي توصلوا إليها، يكفي أن أقول:
لقد أقاموا نتائجهم، على ما حملته «منظومة التواصل المعرفي» من عدد الصلوات، وعدد الركعات، فما أدراهم أن هذه الأعداد صحيحة، وأن هناك هيئة أصلا لـ «الصلاة» من قيام وركوع وسجود؟!
وبأي منطق قالوا إن بيان «الصلاة» موجود في القرآن، وأن هذا البيان من «الإعجاز العددي»، وهم يُنكرون أصلا حجية «منظومة التواصل المعرفي»؟!
أما إذا كانوا لا ينكرون حجية «منظومة التواصل المعرفي»، إذن فما يسمونه «إعجازا»، عليهم أن ينسبوه إلى هذه المنظومة المعرفية، وليس إلى عملياتهم الرياضية، وحكاية «التباديل والتوافيق»؟!
إنكم إذا عكفتم على دراسة وتدبر آيات «الْكِتَاب الْمُبِين»، بشرط أن تمسحوا من ذاكرتكم المعرفية كل ما يتعلق بموضوع «الصلاة»، الذي يرجع الفضل فيه إلى «منظومة التواصل المعرفي»، لن تستخرجوا من القرآن أي كيفية أداء للصلاة، ولا عددها، ولا عدد ركعاتها، ولو استعنتم بأحدث أنظمة البحث العلمي في العالم.
«إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
محمد السعيد مشتهري