نحو إسلام الرسول

(544) 5/12/2016 (علم «البيان» والقرآن المبين)

لقد نزل القرآن «المبين»، بلسان عربي «مبين»، يحمل من الأساليب «البيانية» والصور البلاغية «الفنية»، ما يُستغنى بها عن الجمل الطويلة، بأبسط الألفاظ وأوجزها بيانًا، وكان أهل «اللسان العربي» يعلمونها قبل نزول القرآن، وتميزوا بها عن سائر «الألسن».

لقد نزل القرآن يحافظ على «الخصائص الأسلوبية» التي حملها «اللسان العربي» وقت نزوله، عندما يُراد الخروج باللفظ من موقعه الأصلي إلى موقع آخر أكثر اتساعًا وبيانا، مع بقاء الألفاظ محتفظة بمعانيها وخصائصها دون تغيير.

فكيف خاطب الله تعالى أهل «اللسان العربي»، بالأساليب البيانية التي كانوا يستعملونها وقت نزول القرآن، في سياق بيان دلائل الوحدانية؟!

لقد ورد لفظ الجلالة «الله» في معظم السياقات دون أي إضافات، إلا أن هناك سياقات حملت إضافات يستحيل أن تنسب إلى الله تعالى بمعناها الظاهري.

فهل فهم أهل «اللسان العربي» معنى: «اليد، العين، الوجه، العرش، الكرسي، الاستواء، الإتيان والمجيئ..» على المعنى الأصلي الذي وُضعت له؟!

أم تجاوزوها، وفهموا النص بـ «الأساليب البيانية» التي عرفوها، والتي تُنزه الله تعالى عن التجسيم؟!

لا شك أن أهل «اللسان العربي»، فهموا أن الله تعالى ليس كمثله شيء، فليس له «يد، وعين، ووجه»، وليس له «عرش، وكرسي» يجلس عليهما، ولا يتحرك كالأجسام، «يذهب ويأتي»، وذلك بأساليبهم البيانية التي تعبر عما يريدون بأبسط الألفاظ وأوجزها، دون الإخلال بدلالاتها الأصلية.

ثم جاء أئمة اللغة العربية، وتدبروا القرآن، وفهموا هذه الأساليب البيانية، واصطلحوا على تسميتها التشبيه، والتمثيل، والاستعارة، والكناية، والتورية..، واجتازوا «مجازًا»، بمرونتها الاستعمالية، من موضعها الأصلي إلى موضع آخر، مع بقاء الألفاظ على معناها الأصلي، وإضافة قيمة بيانية جديدة بهذا «المجاز».

فعندما يقول الله تعالى:

«كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ»

هل فهم رسول الله، وأهل «اللسان العربي»، أن كل شيء سيفنى، بما في ذلك الذات الإلهية، ويبقى «وجهه» فقط، سبحانه وتعالى عما يصفون، وكذلك ما ورد في قوله تعالى في موضع آخر:

«كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»؟!

لا شك أنهم ابتعدوا تماما عن هذه الصفات التي يتمتع بها «المخلوق»، من جوارح وأحداث..، وفهموا الآيات على طريقتهم البلاغية، وبأساليب البيان المتداولة بينهم، فقد كانوا يُطلقون الوجه على ذات الشيء، «سواء كان له وجه أم لا»، للتعبير عن شرفه وقيمته، باعتبار الوجه أشرف السمات الاعتبارية.

مثال: نحن اليوم نرى لكل متجر «واجهة» يعرض فيها صاحبه أجود الأشياء التي تجذب الناس إلى بضاعته، لأن هذا «وجه» المتجر، ويظل «الوجه»، هذا العضو المعروف، محتفظًا بخصائصه، ويظل «المتجر» محتفظا بخصائصه.

لقد «تجاوز» أهل «اللسان العربي» المعنى الأصلي، إلى المعنى الذي يُنزه الله عن الجوارح، وعن التحرك والانتقال، وفي الوقت نفسه يتسع له المعنى الأصلي، فجاء «الوجه» للتعبير عن العظمة، «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ»، وتجليها يوم أن يُفنى كل شيء ويُهلك.

فإذا ذهبنا إلى قوله تعالى:

«وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً»

فهل كان العرب يعرفون معنى كلمة «أعمى» في موضعها الأصلي؟!

فإذا فهموا الآية على ظاهرها، وهو «عمى العين»، نسبوا إلى الله الظلم، لأن هذا معناه أن الآية تتحدث عن «أعمى العين»، وأنه سيحشر يوم القيامة أعمى، بل وأضل سبيلا.

والحقيقة أنه لا ملازمة مطلقا بين العمى البصري والضلال عن الدين، فتدبر:

«وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ»

وتدبر قوله تعالى:

«أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ»

لذلك كان لابد من حمل «العمى» في هذه الآيات على الأسلوب المجازي، ليناسب الضلال، «وَأَضَلُّ سَبِيلاً»، فيستقيم معنى السياق القرآني، وينزه الله تعالى.

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى