نحو إسلام الرسول

(542) 29/11/2016 (خدعوهم فقالوا : لا «مجاز» في القرآن)

لقد عشت، خلال فترة تحولي من الإيمان الوراثي، القائم على ما وجدت عليه آبائي، إلى الإيمان العلمي، القائم على الحجة والبرهان، نفس التوجهات الفكرية التي أسميها أنا اليوم بالقراءات الشاذة للقرآن، بل وكنت أدعو إليها.

ولقد كان من الطبيعي، وأنا أبحث عن الحق، بعد أن كفرت بما وجدت عليه آبائي، وقررت ألا أتبع غير القرآن، أن أمر بهذه المرحلة الفكرية العشوائية، التي ظهرت بسبب رفضي أن أفهم ديني، وأحكام شريعته، من أي مصدر معرفي غير القرآن.

لقد مكثت ساعات وليالي بحثا عن معنى الكلمة في السياق القرآني، وبجواري المعجم المفهرس لألفاظ القرآن، لمحمد فؤاد عبد الباقي، وكان عملا شاقًا، لأني كنت أحاول استنطاق المعنى ليخالف ما يقوله أئمة السلف في أمهات كتب التفسير والحديث.

ولقد شعرت في وقت من الأوقات، أني أخدع نفسي، وأني بهذا المنهج العشوائي سأخرج بنتائج تخالف ما تعلمته من أصول البحث العلمي في دراساتي الأكاديمية، وأن هذه النتائج لن يكون لها وزن في مجال الدراسات العلمية.

لقد قررت اتباع مراحل البحث العلمي، وقررت اختبار الفرض الذي وضعته: هل «القرآن وكفى» يصلح أن أقيم عليه فهمي للدين الذي أمرني الله اتباعه والعمل بأحكام شريعته؟!

أولا: هل سأعتبر القرآن كتابًا إلهيًا كسائر الكتب التي نزلت على الرسل، أم سأعتبره «الآية» الدالة على صدق النبي الخاتم محمد، عليه السلام، والفرق كبير؟!

الجواب: لا شك أنه «الآية الإلهية» الدالة على صدق النبي الخاتم محمد، بدلالة النص القرآني، وعندما نتحدث عن «آية إلهية»، فنحن نتحدث عن تفاعل بين الكلمة القرآنية «الاسم، والفعل، والحرف» ومقابلها الكوني، الموجود خارج القرآن، والذي يجب أن يكون محفوظًا بحفظ الله للنص القرآني ذاته.

إنني عندما أنظر إلى أعضاء جسمي، ووظائفها، لا أجد في القرآن وصفًا لها أو صورًا موضحة، إذن فمن أي مصدر معرفي عرفت أن هذا العضو اسمه يد، وهذا إصبع، وهذا وجه، وهذا أنف… إلى آخر الأعضاء، فكيف يخاطب الله بها الناس في القرآن، ولم يبينها لهم؟!

النتيجة: عدم صحة هذا الفرض: «القرآن وكفى»

ثانيا: بعد أن آمنت أن القرآن هو «الآية الإلهية» الدالة على صدق النبي الخاتم، وأن الله أرسله للناس كافة، فهذا يعني أن أي إنسان غير عربي، إذا أعطيته القرآن اليوم يستطيع قراءته وفهم آياته، وهذا من رابع المستحيلات، لماذا؟!

لقد أرسل الله الرسل بلسان أقوامهم، وأرسل رسوله محمدا، عليه السلام، بلسان قومه العربي المبين، أي أن اللسان كان سابقًا لنزول الرسالات، وعلى أتباع الرسل تبليغ رسالات ربهم عن طريق تعليم الناس اللسان الذي نزلت به الرسالات، وهذا ما كان يجب على كل مسلم عربي أن يفعله منذ بعثة النبي الخاتم.

لقد تعلم العرب اللغة العربية في مراحل التعليم الأولية، قبل معرفتهم القرآن، وهذا ما يجب أن يفعله أيضا غير العربي، ليكون العربي وغير العربي أمام القرآن سواء، فليس معنى أني ولدت عربيًا، أن أخدع نفسي، وأعطي ظهري للمصدر المعرفي الذي جعلني أصلا عربيًا.

إن «المنهجية العلمية» تفرض على كل متدبر للقرآن، أن يعلم أولا أن هذا القرآن رسالة الله للناس جميعًا، وأن عليه أن يعتبر نفسه يجلس بجوار «أعجمي» وأن عليهما البحث عن الأدوات التي عن طريقها يفهم الناس هذا القرآن الذي أمامهما.

إن مرحلة «تدبر» القرآن، يجب أن تسبقها مرحلة «تعلم» اللسان الذي نزل به القرآن، والبحث عن مصادره المعرفية، وهي مراجع اللغة العربية، التي دوّنها أهلها خشية ضياع اللسان العربي وعلومه، وطبعا ليس منها ترجمات القرآن، لأن هذه لا علاقة لها بنصوص «الآية القرآنية».

فبأي منطق يتصور المفكرون الإسلاميون المستنيرون، والعصريون، أن فاعلية هذه «الآية القرآنية» ستصل في يوم من الأيام إلى العالمية، عن طريق ترجمة نصوصها، وهي تحمل من علوم «البيان» ما يستحيل ترجمته؟!

لقد حمل «اللسان العربي» من «علوم البيان» التي عرفها العرب، ما يستحيل فهم القرآن بمعزل عنها، والضابط الحاكم في ذلك هو تناغم المعنى مع السياق القرآني، ومع مقابله الكوني الذي عرفته البشرية، وعرفه المسلمون، على مر العصور.

لذلك كان من غير المنطقي، أن أقول بـ «القرآن وكفى»، وأدعي أني أتدبر آياته، وأستنبط أحكامه، والحقيقة أني أعتمد في ذلك على «ذاكرة المعارف العربية» التي ورثتها عن آبائي، وتعلمتها قبل أن أتعلم القرآن، وكان لها الفضل الأول في تعلمي كيف أقرأ القرآن.

النتيجة: عدم صحة هذا الفرض: «القرآن وكفى»

والبرهان الأول على صحة ما توصلت إليه من نتائج هو:

لقد حمل منشور «لماذا لا يتبعون منظومة التواصل المعرفي»، في «٢٦ / ١١/ ٢١٠٦»، الآيات الـ «٩٣» التي حمل سياقها كلمة «الصلاة»، ولم يُبين الله تعالى فيها كيفية أداء هذه «الصلاة»، لماذا؟!

لقد خاطب الله الوجود البشري بكلمات كانوا يعرفون مسمياتها من قبل إرسال الرسل، وهناك شعائر ومناسك وأعمال ومهن كان على الرسل بيان كيفية أدائها للناس، فقد تعلموا من نوح صناعة الفلك، وتعلموا من داود صناعة لباس الحرب، وتعلم المسلمون من النبي الخاتم كيفية أداء الصلاة، التي وردت في «٩٣» آية دون بيان كيفية أدائها.

وكان على الذين يقولون بـ «القرآني وكفى» استخراج كيفية «الصلاة» التي يقيمونها اليوم من هذه الآيات، ومن هذه الآيات فقط، لأنها هي التي حملت كلمة «الصلاة»، ولكنهم وقفوا أمامها حائرين، مُغيّبين، لا يجدون إجابة على السؤال الذي وضعته في نهاية المنشور، فماذا يفعلون، وأين يذهبون؟!

البرهان الثاني الذي يحمل حجية «علم البيان»:

١- قوله تعالى:

«وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ»

فإذا تمسكنا بفهم القرآن بالقرآن، وبظاهر النص، فإن «رقبة» المملوك أو المملوكة هي التي تُحرر فقط، فهل هذا معقول؟! هل يوجد إنسان بدون رقبة؟! إذن المقصود هو تحرير هذا الإنسان، فإذا سألك سائل: وما الحكمة في عدم ذكر السياق ذلك صراحة، فماذا تقول؟!

إن الإجابة لن تجدها داخل القرآن، لأنها من «علم البيان» ومن الأساليب البلاغية التي عرفها العرب، ومنها «المجاز»، وإطلاق الجزء ويراد به الكل، للتعبير عن معنى لا يتحقق إلا بذلك، وهو هنا «تحرير المملوك من الأغلال التي وضعها سيده حول رقبته».

وطبعا سيخرج علينا أتباع «القران وكفى»، بما خدعهم به الذين يتبعونهم بغير علم، ويقولون: لا مجاز في القرآن!!

ولكن لماذا ينكرون «علم البيان»، وهم يدّعون أنهم يتبعون «اللسان العربي»، وكلها علوم مدونة في مراجع اللغة العربية، وليس أمامهم مصدر معرفي غيرها؟!

لأن «علم البيان» يكشف حقيقة توجهاتهم الفكرية، فهو الذي يسري في شريان «اللسان العربي»، فكيف يتبعونه وهم يريدون أصلا تفكيك بنية السياق القرآني، بدعوى القراءة المعاصرة، ومنهج الترتيل اللفظي.

٢- قوله تعالى:

«يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ»

أما هنا فأطلق الكل «الأصابع»، وأراد به الجزء «الأنامل»، ولم يقل يجعلون «أناملهم في آذانهم»، لأنه يريد بيان أنهم لو كان بإمكانهم دفع الإصبع كله بقوة داخل الأذن لفعلوا، من شدة الخوف من الموت، وهذا يُسمى في علم البيان بـ «المجاز اللغوي المرسل»، وذلك بإطلاق اسم الكل على الجزء، وإرادة الجزء ذاته فحسب.

٣- قوله تعالى:

«وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ (أُذُنٌ) قُلْ (أُذُنُ) خَيْرٍ لَكُمْ»

معلوم أن «الأذن» هي الآلة التي بها حاسّة السمع، فهل كان النبي «آلة» سمع؟!

إن السياق يتحدث عن أساليب الإيذاء التي كان يتعرض لها النبي من المنافقين، ومنها اتهامه بأنه «أُذن»، فهل يُعقل أن يقرهم الله على هذا الاتهام، ويكرر نفس اللفظة التي استخدموها، ويقول لهم نعم هو «أذن»، ولكن «أُذن» خير لكم؟!

إن هذا مثال من مئات الأمثلة على استخدام العرب لمصطلحات علم «البيان» التي حفظها الله في مراجع اللغة العربية، عبر «منظومة التواصل المعرفي»، ومنها ما يُطلق عليه «تشبيه»، و«كناية»، و«مجاز»..، بأنواعها المتعددة.

طبعا المنافقون لا يقصدون آلة السمع، وإنما يريدون اتهام النبي بأنه يُصدق كل شيء يسمعه، دون تعقل ولا تمييز، فاستخدموا أسلوب «الكناية»، كما نقول نحن اليوم «فلان وِدِنِي».

ونلاحظ أن الله رد عليهم بنفس أسلوب التشبيه والكناية الذي استخدموه، وجاء بآلة «الأذن» التي استخدمت في مقام الذم، ولكنه سبحانه استخدمها في مقام المدح، باعتبار أن «الأذن» تسمع كل شيء، ورسول الله لا يستخدم «أذنه» إلا فيما ينفع الناس ولا يضرهم، فهو «أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ»، فرد عليهم باستخدام نفس «الأذن» لغيظهم، وهو من أساليب «البيان» التي عرفها العرب، وحملها «اللسان العربي» ولا يمكن فهم القرآن بمعزل عنها.

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى