نحو إسلام الرسول

(539) 23/11/2016 (العشوائية الفكرية في الميزان)

ذكرت في المنشور السابق أن هناك حقائق تاريخية لا يمكن لعاقل إنكارها، وأن الله يستحيل أن يخاطب الناس بكلمات لا يعلمون شيئًا عن مسماها، فيحفظها الله لفاعلية رسالاته، لتكون حجة على الناس إلى يوم الدين.

لقد بيّن الله أن على الأرض من الآثار والمعالم التي تراها الأعين، ما يمكن الاستدلال به على خالقها، وأن الذي خلقها من عدم قادر على إعادتها بعد زوالها، وذلك من «دلائل الوحدانية»، فيقول الله ردا على منكري البعث:

«قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» قَدِيرٌ»

إن الله تعالى يحيل الناس إلى آثار وحفريات ومعالم تاريخية للاستدلال بها على حقائق من عالم الغيب، عليهم أن يؤمنوا بها وإن لم يروها.

لقد ذهبت أمم، وجاءت أمم، وهناك آثار مازالت باقية تشهد بصحة ما نقله التاريخ عن الأمم التي ذهبت، وجاءت الرسالات الإلهية تشير إليها، كمساكن عاد وثمود: «وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ».

وهناك مكان اسمه «الغار»، ذهب إليه رسول الله محمد وصحبه، وأخبرنا الله بما حدث بينهما، ومنذ قرون مضت والناس يذهبون إلى هذا «الغار»، الذي هو حقيقة تاريخية نزل القرآن يشهد بصحتها، وتواصلت حلقاتها المعرفية إلى يومنا هذا، لذلك فإن الذي ينكرها هو في الحقيقة ينكر قوله تعالى:

«إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا»

وهناك مكان في نفس البلد التي فيها «الغار» اسمه «الكعبة – البيت الحرام»، قال عنه الله تعالى:

«جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ»، وهذا «البيت الحرام» موجود في مكان اسمه «المسجد الحرام»، قال عنه الله تعالى في سياق الحديث عن مناسك الحج:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ (الْبَيْتَ الْحَرَامَ) … وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أَنْ تَعْتَدُوا»

لقد خاطب الله المؤمنين في عصر الرسالة بأشياء يعلمونها، ويعلمون أماكنها، فـ «المسجد الحرام» كان معروفا للعرب بأنه هذا المكان المحيط بـ «الْبَيْتَ الْحَرَامَ»، وقد بيّنا ذلك في المنشور السابق.

لقد عرف المسلمون بجميع جنسياتهم، «الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ – الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ»، منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، وعرفوا «الغار»، المسمى بغار حراء، وهنا تظهر أهمية «منظومة التواصل المعرفي» وتهافت ما يُسمونه بـ «التواتر العلمي» المذهبي ومروياته، التي إن صحت عند فرقة لم تصح عند أخرى.

إن حلقات التواصل المعرفي بين الشعوب، سواء كان تواصلا عالميًا أو أمميًا، قامت على أساسه حضارات، وتقدمت على أساسه أمم، والموضوع مُفصّل في كتاب «المدخل الفطري إلى الوحدانية» على موقعي، فكيف ينكر عاقل وجودها؟!

كيف يقول مسلم إن قوله تعالى:

«يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ»

دليل على أن «المسجد» ليس هو مكان العبادة الذي عرفه المسلمون لأن الخطاب هنا لبني آدم، وليس للمسلمين فقط؟!

وهنا تظهر أهمية، بل وجوب، أن يكون دارس القرآن على دراية بعلم «السياق القرآني»، وعلم «البيان»، فهناك ما يُسمى في السياق القرآني بـ «الكلية»، أي التعبير بالكل ويكون المراد به الجزء، مع وجود قرينة على ذلك، كقوله تعالى:

«يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ»

ومعلوم أن المقصود جزء من الأصابع «الأنامل» وليس كل الأصابع، وكذلك فإن قوله تعالى: «يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ»، المقصود به «المسلمون» من بني آدم، وتعالوا نتدبر سياق الآية.

لقد بدأ الخاطب عامًا: «يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً … يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ … وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا …» ثم تحول الخطاب إلى المسلمين، فقال تعالى:

«قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ (مَسْجِدٍ) … فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ … يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ (مَسْجِدٍ)»

إن الذين لا دراية لهم باللسان العربي، وبعلم السياق القرآني، يجب أن يمتنعوا عن التقول على الله بغير علم، وليس معنى أن «السلفية» جاءت بمسائل إيمانية وتشريعية ما أنزل الله بها من سلطان، أن نهدم «السلفية» ونهدم معها «القرآن»، و«ذاكرة المعارف العربية»، باسم القراءات العصرية.

أولا: لقد قامت «السلفية»، وأقصد بها منظومة المذاهب العقدية والتشريعية المختلفة، التي حملها أئمة السلف للخلف، قامت على الدماء التي سُفكت في أحداث «الفتن الكبرى»، ومع ذلك كانوا يُصلون «الصلوات الخمس» على أرض المعركة، وقد كانوا من قبلها يصلونها في «المسجد الحرام»، وفي «مسجد المدينة»، الذي صلى فيهما النبي، ويصلي فيهما المسلمون اليوم، بجميع جنسياتهم المختلفة.

لقد قامت «السلفية» على اعتبار أن «مرويات الرواة» هي «أحاديث النبي»، ومعلوم لمن له دراية بخصائص النص التشريعي الإلهي، أن المرويات «التاريخية» لا حجة لها في دين الله، وهذا ما جعل علم «الحديث» يسقط من قواعده، وشهدت بسقوطه علومه، وفي مقدمتها علم «الجرح والتعديل».

ومع أن «السلفيين» يعيشون في عالم من «الوهم»، يظنون أنهم يتبعون الرسول، وهم في الحقيقة يتبعون المحدثين الذين نقلوا عن الرواة، الذين نسبوا مروياتهم إلى الرسول، إلا أنهم لم يستطيعوا تحريف مسميات الكلمات القرآنية، ليصبح «المسجد الحرام» ليس مكانًا للصلوات الخمس، وتصبح «الصلاة» بلا هيئة من قيام وركوع وسجود.

ثانيا: ثم جاء أصحاب «الإسلام المستنير»، بما جاء به أئمة سلف الفرقة الإسلامية التي ينتمون إليها، ويتخذون أمهات كتبها مرجعا لهم، إلا أنهم يرون وجوب تنقية هذه الكتب، ولا مانع وهم في طريقهم إلى التنقية، من سب أئمة السلف الذين دوّنوا ما فيها.

ومع أن هؤلاء «المستنيرين» يعيشون في عالم نقد «التراث الديني» ومروياته، إلا أنهم لم يستطيعوا القول إن «المسجد» ليس مكانًا للصلوات الخمس، ولا إن «الصلاة» لا هيئة لها من قيام وركوع وسجود.

ثالثا: ثم جاء أصحاب «الإسلام العصري»، ليهدموا ذاكرة المعارف العربية، وبذلك يسهل عليهم هدم القرآن والإسلام السلفي والمستنير، فابتدعوا دينًا جديدًا لا علاقة له لا بالقرآن، ولا بالإسلام السلفي ولا المستنير.

فإذا ذكرت أمامهم «المسجد» فأنت عندهم تراثي سلفي، وإذا ذكرت الصلوات الخمس فأنت عندهم آبائي، تتبع ما وجدت عليه آباءك، لقد نزلوا من كوكب آخر لا يعلمون شيئًا عن كوكب الأرض!

لقد عرف قوم لوط، عليه السلام، مكانًا اسمه «النادي»: «وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ» وهذا «النادي» عُرف على مر العصور بالمكان الذي ينتدي فيه الناس، أي يجتمعون فيه لأغراض مختلفة، وكان معروفا للعرب وقت نزول القرآن، ولا شك أنهم كانوا يذهبون إليه في المناسبات، ولم يسألوا عنه كما سألوا عن أشياء أخرى.

وفي القرن الواحد والعشرين الميلادي، عرف الناس «النادي»، الذي عرفه قوم لوط، وعرفه قوم النبي الخاتم، عليهما السلام، وهو البناء المادي القائم على الأرض، الذي يجتمع فيه الناس لأغراض مختلفة.

فإذا قلنا: تعالوا نتخذ «النادي» مكانا لعقد القرآن، تماما كما نقول تعالوا نتخذ «المسجد» مكانا لعقد القرآن، أي تعالوا نقيم عقد القرآن في هذا البناء المادي الذي اسمه «النادي».

وعندما يقول الله تعالى:

«وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ (مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) مُصَلًّى»

ويقول تعالى:

«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ (مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ)، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»

نفهم من ذلك أن المقصود من اتخاذ «مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى»، هو اتخاذ البيت الذي أقامه إبراهيم مصلى، أي مكانا للصلاة والعبادة، هذا البيت الذي «مَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا»، والذي هو منسك من مناسك الحج «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»، والذي يقع داخل «المسجد الحرام».

أليس هذا البيت هو الذي دعا إبراهيم ربه قائلا:

«رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ (بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ»

والسؤال:

ماذا كان يعني قول إبراهيم: «رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ»، يعني ما الذي أراد إبراهيم أن يفعلوه، وهل فعلوه، وما هو الذي فعلوه، وأين البرهان على ما فعلوه؟!

إنه لا يوجد مسلم ينكر أن ما فعله المسلمون على مر العصور في «المسجد الحرام»، من أداء الصلوات الخمس، واعتكاف..، كان يفعله المسلمون في حياة النبي، عليه السلام، فهذه حقائق قرآنية، حملتها لنا «منظومة التواصل المعرفي».

لذلك أقول:

إن أصحاب «الإسلام العصري»، هم الفتنة الأكبر التي أصابت الفكر الإسلامي، فهم يُضلون الناس بغير علم، ويظنون أن فهم النص القرآني يمكن أن يتحقق بمعزل عن «مقابله الكوني» الموجود خارج القرآن، والذي يجب أن يكون مطبوعًا في قلوب الناس الذي جاء القرآن يخاطبهم.

إن الواقع الذي يعيش فيه المسلمون اليوم، يشهد أنهم لا يعلمون شيئًا عن «الإسلام» الذي كان عليه الرسول والذين آمنوا معه، إن رسول الله لم يعرف «المذهبية» ولا «العشوائية» الفكرية، ولا انفصال الأقوال عن الأعمال، ولم يعش حياته فكرًا بلا واقع يعبر عنه، لذلك فإن السؤال المحير:

هل المفكرون الإسلاميون السلفيون، والمستنيرون، والعصريون، لا يعلمون أنهم يعيشون داخل مصيبة كبرى، وهي أنهم من المغضوب عليهم، لأنهم هجروا ما أمرهم الله به، وهو تفعيل نصوص «الآية القرآنية» على أرض الواقع، لإقامة الشهادة على الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور؟!

ولكن، كيف يقومون بتفعيل نصوص «الآية القرآنية» على أرض الواقع، وحياتهم كلها ترف فكري، وفكر عشوائي، وجدل عقيم، وكلام في كلام؟!

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى