نحو إسلام الرسول

(534) 11/11/2016 (حور عين في السياق القرآني)

عندما نقرأ القرآن، نبحث عن «الحور العين»، نجد أن الآيات التي وردت فيها هذه العبارة هي:

أولا: قوله تعالى في سورة الدخان، «الآية ٥٤»:

«كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ»

طبعا عندما ننظر إلى هذه الجملة القرآنية، بمعزل عما قبلها وما بعدها، لن نفهم منها شيئًا، فما معنى كلمة «كَذَلِكَ»، ولماذا جاءت واو العطف في «وَزَوَّجْنَاهُم»، ومن هم الذين تزوجوا، وما المقصود بـ «الحور العين»؟!

فإذا تدبرنا سياق الآيات التي قبلها، لنصل إلى بداية الموضوع، سنجد أن البداية هي «الآية ٥١»، وقوله تعالى:

«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ . فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ . كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ . يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ».

إذن فقد جاءت عبارة «حور عين»، في سياق الحديث عن النعيم الذي أعده الله للمتقين في الآخرة، فإذا تدبرنا الكلمات المستخدمة في هذه الآيات، نجد أن الله يخاطبنا بما نعرفه من أسماء ومسميات «عالم الشهادة».

فتعالوا نُكَوِّن صورة ذهنية عن هذا المشهد، الذي كان العرب يعلمون جيدًا معنى كل كلمة فيه، وهو مشهد المتقين، «يَلْبَسُونَ» ثيابا «مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ»، وهي أنواع من ثياب الحرير الفاخرة، يجلسون «مُتَقَابِلِينَ»، أي يجلس بعضهم قبالة بعض.

واستكمالا لهذا المشهد، يقول الله تعالى بعدها: «كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ»، أي كذلك هو نعيم الجنة، الذي أعده الله للمتقين، ومنه أن يقرن الله المتقين بما تقر به أعينهم، وتسعد به قلوبهم، كما تقرن الأزواج من نفس واحدة، وقد توسع هذا المشهد في سورة الصافات، فقال تعالى:

«إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ . أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ . فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ . عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ . يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ . بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ . لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ . وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ . كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ»

والآن علينا أن نتدبر قوله تعالى في هذه الآيات:

«فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ . عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ … وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ . كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ»
ومعه قوله تعالى في سورة الدخان، السابق ذكره:

«يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ . كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ»

ثم نذهب إلى ما ذكرناه، في المنشور السابق، عن آيات سورة الواقعة، ونذكركم بما جاء فيها عن ألوان النعيم لأصحاب اليمين:

وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ . فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ . وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ . وَظِلٍّ مَمْدُودٍ . وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ . وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ . لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ . وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ . إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً . عُرُباً أَتْرَاباً . لأَصْحَابِ الْيَمِينِ»

وقبل أن نتدبر العلاقة بين ما ذكره الله في سورة الدخان:

«كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ»

وما ذكره في سورة الصافات:

«وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ . كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ»

ثم ما ذكره في سورة الواقعة:

«إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً . عُرُباً أَتْرَاباً»

علينا أن نعلم:

أن هذا الوجود البشري جاء إلى هذه الدنيا، من «شهوة ولذة ومتعة»، ولكن العرب، في جاهليتهم، انحرفوا وبالغوا في توظيف هذه «الفطرة البشرية»، حتى أن مسألة «البكر والثيب» في النساء كانت موضع اهتمامهم، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في سياق تحذير نساء النبي، فقال لهن:

«عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا»

لقد نزل القرآن يُقر هذه «الفطرة البشرية»، ويضبطها بضوابط الشريعة، ويجعلها من ألوان النعيم في الجنة، ولكن ليس بوسائل إدراكنا لـ «الشهوة واللذة والمتعة» التي عرفناها في الدنيا!

إننا نشعر وندرك ونحس حسب وسائل الإدراك التي خلقنا الله بها لنعيش في «عالم الشهادة»، والمتدبر للقرآن يعلم أن كل ما ورد عن «عالم الغيب» ما هو إلا مجرد تمثيل وتشبيه لتقريب مفهوم نعيم وعذاب الآخرة، أما حقيقة ما سيحدث في الآخرة بعد البعث والنشأة الأخرى، فيستحيل أن يعلمها إنس ولا جان، ومن هذا المنطلق علينا أن نتدبر الآيات السابق ذكرها، وهي:

«كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» – «وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ . كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ» – «إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً . عُرُباً أَتْرَاباً»

إن المتدبر لهذه الآيات، طبعا بوسائل إدراك «عالم الشهادة»، يعلم أنها تتحدث عن «نساء» اقترن بالمتقين، ومن صفاتهن الجمالية أنهن «حور عين»، وقد بيّنا ذلك في المنشور السابق.
ومن صفاتهن أنهن يغضضن من أبصارهن: «قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ»، كناية عن العفة التامة، عيونهن قاصرات على أزواجهن، «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ»، بيض، «بيضوات»، لا يقربهن ولا يمسهن إلا أزواجهن.

وهذه من ألوان النعيم التي أعدت لنساء الدنيا في النشأة الأخرى، ودليل ذلك قوله تعالى: «إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً . عُرُباً أَتْرَاباً»

أما من لم يكن لهم أو لهن «أزواج» في الدنيا، فلا شك أنهم سيتمتعون بكل ما سيتمتع به الأزواج «الحور العين».

ونعود إلى سورة الصافات لنستكمل المشهد، الذي نراه يتسع ويتسع، وقوله تعالى عن حال المتقين في الجنة: «عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ».

و«السرر» جمع «سرير»، وهو الذي يعرفه الناس جميعًا، ويجلسون عليه ويتكئون ويضطجعون، يقول الله تعالى في سورة الزخرف: «وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ»، ولكن وكما قلنا ونقول، إن نعيم الآخرة ليس كنعيم الدنيا.

ويصبح المشهد الآن هو: «المتقون» يلبسون ثيابًا فاخرة «مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ»، ويجلسون «عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ»، ويتمتعون بألوان النعيم التي ذكرتها آيات سور الدخان، والصافات، والواقعة.

ومن ألوان هذا النعيم، أن «السرر» تُغطى بـ «فرش»، فقال تعالى في سورة الرحمن: «مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ»

و«الفرش» جمع، ومفردها «فراش»، وهو ما يُفرش على «السرر»، وقد عبر عن السرر بـ «الفرش» لبيان مزيد من النعم، لأن: «بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ»، وإذا كنا في الدنيا نحشي الفرش بالقطن أو الصوف..، فإن فرش «السرر» في الجنة محشوة بنسيج من خيوط الذهب.

ثم تدبر قوله تعالى بعد الحديث عن «الفرش»:

«فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ»

فعلام يعود ضمير الجمع «فِيهِنَّ»، والسياق يتحدث عن المثنى «فيهما»؟!

هنا تظهر أهمية «علم البيان»، وما يحمله من الأساليب البلاغية التي لا توجد في أي لغة من لغات العالم، فالآية التي سبقت «فِيهِنَّ»، تحدثت عن «الفرش»، ولو كان المقصود بيان أن «قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ» يجلسن على هذه «الفرش» لقال: «عليهن» قاصرات الطرف، وليس «فِيهِنَّ».

إنني عندما تذكرت ما فعله فرعون مع الذين آمنوا بموسى عليه السلام، فقال تعالى: «وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ (فِي) جُذُوعِ النَّخْلِ»، وجدت أن المنطق يقول إن الصلب «على» الجذوع، وليس «فيها»، وهنا علمت أن المسألة فيها صورة بلاغية.

إن العدول عن حرف الاستعلاء «على» إلى حرف الظرفية «في»، يكون عندما يراد بيان تمكن شيء من شيء، تمكنا شديدًا، كتمكّن المصلوب من الجذع، وكأنه دخل في جسده، فأراد الله أن يُبيّن تمكن «قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ» من فرشهن، للدلالة على تغييب أجسامهن في الفُرُش، لأن «بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ»، كنايةً عن الترف والراحة.

وعلى الجانب الآخر، هناك تطمين للرجال، وهو شعورهم الدائم أن الحور العين: «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ»، وقد بيّنت ذلك، ومعنى «الطمث»، في المنشور السابق، وكل هذا جاء من باب التشويق، عن طريق معطيات «عالم الشهادة» الذي نعيش فيه: «وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»

ثانيا: والموضع الثاني الذي وردت فيه عبارة «حور عين» هو قوله تعالى في سورة الطور «الآية ٢٠»: «مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ»

طبعا الآن نستطيع أن نفهم هذا المشهد في إطار ما سبق بيانه، وأن الضمير في قوله تعالى:
«وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ» يعود إلى المتقين، الـ «مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ»، ويؤكد ذلك تدبرنا للسياق الذي وردت فيه هذه الآية، والذي يبدأ بـ «الآية ١٧».

ثالثا: والموضع الثالث الذي وردت فيه عبارة «حور عين» هو قوله تعالى في سورة الرحمن «الآية ٧٢»: «حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ»

ولقد وردت هذه الجملة في سياق يبدأ من «الآية ٤٦» في وصف نعيم الجنة، وقد تكرر بعد كل مشهد قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»، وكل المشاهد التي حملها سياق الآيات أصبحت مفهومة لنا الآن.

وما ذكرناه سابقا عن العدول عن صيغة المثنى إلى صيغة الجمع، في قوله تعالى: «فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ»

هو نفسه الذي نذكره في قوله تعالى: «فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ … حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ … لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ»

غير أن الأسلوب البلاغي اختلف، فأين توجد الحور العين الخيرات الحسان؟! قال تعالى:

«مَقْصُورَاتٌ (فِي) الْخِيَامِ»، فحرف الظرفية «في»، هو الذي يعود إليه الضمير «فِيهِنَّ»، أي في الخيام.

رابعا: والموضع الرابع والأخير الذي وردت فيه عبارة «حور عين» هو قوله تعالى في سورة الواقعة «الآية ٢٢»: «وَحُورٌ عِينٌ»، وقد بيّناه بالتفصيل في المنشور السابق.

إنه لمن الخطر الكبير على ملة «الوحدانية»، أن يقيم البعض فهمه للقرآن واستنباط أحكامه، على قاعدة «خَالِف تُعرف»، أي على مخالفة كل ما جاء به التراث الديني، ولو أدى ذلك إلى إسقاط أحكام القرآن كلها، «ملة وشريعة».

والحقيقة أنا لا أدافع عن شيء كفرت به، وهو «التراث الديني» للفرق والمذاهب المختلفة، وإنما أسس لمنهجية علمية، فلا يُعقل أن أهدم ما جاء به القرآن، وما حملته «منظومة التواصل المعرفي» من مسميات الكلمات، التي تتفاعل مع نصوصه، لأنه وافق ما حمله «التراث الديني» إلينا!!

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى