لقد بدأت سورة البقرة ببيان هداية الكتاب للمتقين، الذين وصفهم الله تعالى بقوله: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»، أي الذين يُصدّقون بكل ما جاء به الكتاب عن عالم الغيب ويسلموا تسليما، دون أن يخطر ببال أحد منهم أن يسأل عن هذا العالم..، لماذا؟!
لأن الله تعالى خلق هذا الوجود البشري بوسائل إدراك لا تعمل إلا في «عالم الشهادة»، هذا العالم الذي تعلقت وانطبعت صور كلماته «الأسماء، والأفعال، والحروف»، في أذهان البشر منذ ولادتهم، فكيف يفهمون شيئًا لا يملكون وسائل إدراكه؟!
إن كل ما ورد في كتاب الله عن عالم الغيب، هو على سبيل التمثيل والتشبيه، أما الحقيقة فسنعلمها لما نموت، فانت مستعجل ليه يا ذكي؟!
وانتهى الموضوع، ونقطة، ومن أول السطر.
ولكن يبدو أن هناك مجموعة من المفكرين الإسلاميين قاموا بزيارة للدار الآخرة، للوقوف على حقيقة نعيمها وعذابها، ونقلوا إلينا عبر القنوات الفضائية وشبكات التواصل الاجتماعي، بثًا مباشرًا من هناك.
وها نحن نرى «الحور العين» عبارة عن دوائر من الطاقات المتجددة التي لا ينقطع عطاؤها أبدا، منها طاقات «ذكورية» وأخرى «أنثوية»، لكل ذكر أنثى من «حور العين»، ولكل أنثى ذكر من «حور العين»، وبذلك نكون قد حققنا العدالة الاجتماعية، والمساواة بين الرجال والنساء.
كما نرى الآن أشجار الجنة وفروعها «قاصرات الطرف» المتدلية، التي يسهل قطف ثمارها، وهي ثمار كما نشاهد أيضا من الطاقة المتجددة، أي من «الحور العين»، ومغلفة بأغلفة خاصة، «مقصورات في الخيام».
لذلك أردت أن أقوم بمداخلة لبيان حقيقة هذا الفيلم الذي أنتجه أصحاب الخيال العلمي.
إن مشكلة هؤلاء المفكرين العصريين، أنهم تصوروا أن الذين يستمعون إليهم لا يعقلون، فنجحوا في نشر أفكارهم بصورة لافتة للنظر، ولم يسألهم أحد:
* كيف فهمتم ما يحدث في «عالم الغيب» بوسائل إدراك «عالم الشهادة»؟!
* وإذا كان الله تعالى قد أنشأكم نشأة جديدة، أدركتم بها ما يحدث في «عالم الغيب»، فكيف تطلبون من الذين يعيشون في «عالم الشهادة» أن يفهموا ما تقولون؟!
طبعا من حق أي إنسان أن يكفر بعالم الغيب، وبعالم الشهادة، والكافرون بهما كثر، أما أن يخرج علينا من يقول إنه يؤمن بـ «الوحدانية»، وأنه يقرأ القرآن قراءة معاصرة، ثم إذا به بقراءته المعاصرة يكشف للناس حقيقة ما يحدث في الآخرة؟!
إن أمثال هؤلاء، لم يبق لهم إلا أن يقولوا للناس: «ولقد رأينا الله جهرة»، وسنجد نسبة الإعجاب بهذه القراءات القرآنية العصرية غير متوقعة!!
إن ما سأقوله، بعد أن وضعت النقطة، وأنهيت الموضوع، ما هو إلا قراءة للنص القرآني المتعلق بموضوع «الحور العين»، حسب منهجي في فهم القرآن، وما أحمله من وسائل إدراك لا تعمل إلا في «عالم الشهادة»، دفاعا عن المنهجية العلمية في تدبر القرآن.
المنهجية العلمية في تدبر القرآن
أولا: إن «عالم الشهادة»، الذي نعيش فيه، يقوم على تعلق مسميات الكلمات «الأسماء، الأفعال، الحروف» بأذهان الناس، فيعرفونها عند رؤيتها، أما ما كان من «عالم الغيب» فلم تتعلق صوره بأذهان الناس، لأنهم لا يملكون وسائل إدراكه، ولا شك أنهم يوم القيامة سيبعثون على صورة تمكنهم من إدراك ما يحدث في هذا العالم الجديد.
ثانيا: عندما شاء الله أن يُقرّب إلى أذهان الناس ما يرغبهم في نعيم الجنة، ويُخوفهم من عذاب جهنم، ضرب لهم المثل بكلمات من «عالم الشهادة»، هذا العالم الذي يعيشون فيه، ويعرفون مسميات كلماته، وتعلقت صوره بقلوبهم، فتدبر قول الله تعالى:
«مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ * فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ * وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ * وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى * وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ * وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ * كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ * وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا * فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ»
ثالثا: إن تقريب المعاني بأسلوب التمثيل والتشبيه، يُستخدم لإيصال معاني الترغيب والترهيب إلى قلوب الناس، فعندما يقرؤون قوله تعالى في وصف شراب أهل الجنة:
«مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ – مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ – مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ – مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى»
يدركون متعة هذه النعم، وأنها جاءت للترغيب في نعيم الجنة، وعندما يقرؤون قوله تعالى في وصف شراب أهل جهنم: «وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا – فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ»
يدركون ما في هذا العذاب من آلام، وأنه جاء للترهيب من عذاب جهنم.
رابعا: إن «اللسان العربي» الذي نزل به القرآن، وحملته للناس مراجع اللغة العربية، تتحرك كلماته «الأسماء، والأفعال، والحروف» في «عالم الشهادة»، فإذا بحثنا في مراجع اللغة العربية عن معنى كلمة «حور»، حصلنا على عشرات المعاني التي تستخدم في سياقات ومجالات مختلفة، فإذا أضفنا إليها كلمة «عين»، حصلنا على الآتي:
«يقال: رجل أحور وامرأة حوراء، أن يشتد بياض العين، وسواد سوادها، وتستدير حدقتها، وترق جفونها، ويبيض ما حواليها، والحواريات: نساء الأمصار هكذا تسميهن الأعراب لبياضهن وتباعدهن عن قشف الأعراب بنظافتهن».
إن «الحور العين» مصطلح كان منتشرًا بين العرب، يُعبر عن صفات جمالية في المرأة، ونزل القرآن يخاطب العرب بما يعلمونه، ويكون له تأثير على قلوبهم.
لقد كان العرب يقولون في وصف المرأة الجميلة: «وكأنها من الحور العين»، فأراد الله أن يخاطب أهل اللسان العربي بما يحبونه، وجعل من نعيم الجنة، أن تتحول الزوجات المؤمنات في الجنة إلى «حور عين».
خامسا: لقد جاءت سورة الواقعة ببيان ألوان النعيم التي أُعدّت للسابقين المقربين، فتدبر:
عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ . مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ . يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ . بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ . لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ . وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ . وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ . وَحُورٌ عِينٌ . كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ . جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً . إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً»
فهل عرف العرب معنى كلمات هذه الآيات، وتعلقت صورها الذهنية بقلوبهم، وأدركوا قيمة ما تحمله من نعم، إلا قوله تعالى: «وَحُورٌ عِينٌ . كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ»، فلا يعلمون عنه شيئا؟!
وهل فهم العرب معنى كلمة «مَوْضُونَةٍ»، التي جاءت في وصف السرر؟!
وهل حمل القرآن صورة لمعنى «مُتَّكِئِينَ»، لنعلم ماذا كان يفعل أهل الجنة «عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ»؟!
وهل كانت الصورة الذهنية لمشهد:
«يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ . بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ»
معلقة بأذهان العرب عند قراءة هذه الآية؟!
وهل عرف العرب معنى «فاكهة»، و«لحم الطير»، في قوله تعالى:
«وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ . وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ»
ولماذا يشتهون في الثانية ويتخيرون في الأولى؟!
إ
ذن فلماذا عندما وصل الحديث عن نعيم الجنة إلى قوله تعالى «وَحُورٌ عِينٌ . كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ» قامت الدنيا ولم تقعد؟!
سادسا: يقول الله تعالى عن «الحور العين»:
«إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا»
إ
ن الجعل: تغير وتحول في خصائص الشيء، إذن نفهم من قوله تعالى: «فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا» أن الحديث عن نساء لم يكن أصلا أبكارا، وهن نساء الدنيا المتزوجات، يصبحن أبكارًا في الجنة، «حورَ عين»، بعد أن كن «ثيبات».
وقد يخرج علينا من يقول، إن قوله تعالى: «إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا» جاء عند الحديث عن «أصحاب اليمين»، ولم يذكر الله في سياق أصحاب اليمين «الآيات ٢٧-٤٠» أي إشارة إلى الحور العين، فمن أين فهمت أن الضمير في «أَنشَأْنَاهُنَّ» يتعلق بـ «الحور العين»؟!
هنا تظهر أهمية «علم السياق»، وفاعلية آليات التفكر والتعقل..، آليات عمل القلب.
فعلى سبيل المثال:
كيف نفهم ورود قوله تعالى عن السابقين المقربين: «جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، وعدم وروده لأصحاب اليمين؟! هل لم يدخلوا الجنة بما كانوا يعملون؟!
وكيف نفهم ورود قوله تعالى «وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ»، بالنسبة للسابقين المقربين، وعدم وروده بالنسبة لأصحاب اليمين، والله تعالى يقول عن نعيم أهل الجنة (بوجه عام):
«ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ . يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ، وَفِيهَا مَا (تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ) وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»
إن المتدبر لسياق آيات سورة الواقعة «٧ – ٥٦» يعلم أن المقصود بيان تعدد ألوان النعيم، وليس قصرها على فئة دون أخرى، وأن هناك ألوانًا من النعم المشتركة بين أصناف أهل الجنة، تُفهم ضمنيا من سياق الآيات، ولكن لقوم يُبصرون.
سابعا: يقول الله تعالى في سورة الرحمن، عن نساء الجنة:
«فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ»
والذي يُبيّن أن «قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ» من نساء أهل الجنة، قوله تعالى بعدها: «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ»، والعرب تقول «طَمَثَتِ الْمَرْأَةُ» إذا حَاضَتْ، و«طَمَثَ» الرجل امرأته إذا مسَّها وباشرها، و«الطَمْث» هو دم الحيض الذي يدل على براءة الرحم من الحمل.
وطبعا ليس المقصود بورود «الطمث» في هذا السياق، الحديث عن معناه الحقيقي، وإنما المقصود بيان صفات الجمال التي ستتمتع بها نساء الجنة، وذلك من باب الترغيب في نعيمها، وليس على وجه الحقيقة كما سبق أن بيّنا.
فإذا تدبرنا السياق الذي وردت فيه هذه الآية نجد أن الله تعالى يقول قبلها:
«مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ»
فإذا ذهبنا إلى سورة يس، للوقوف على مزيد بيان لكلمة «مُتَّكِئِينَ»، وجدنا قوله تعالى:
«هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ»
ثم إذا ذهبنا إلى سورة الطور، وجدنا قوله تعالى:
«مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ»
وطبعا ليس معنى «زَوَّجْنَاهُم»، أي بعقود النكاح المعروفة في الدنيا، وإنما جعلنا الزوج «أي المرأة»، المشار إليها في آية سورة يس، «حورَ عيْنٍ» لزوجها.
ومجمل القول:
أن «الحور العين» صفة لنساء أهل الجنة، عموما، ومن ألوان نعيمها، والمرأة التي هي «زوج» الرجل في الدنيا، ستكون «حورَ عينٍ» له في الآخرة، هذا إذا كانت من أهل الجنة، أما غير «الأزواج» إذا دخلوا الجنة، فلا شك أن لهم، ولهن، مثل ما للأزواج من نعم، لا يعلمها إلا الله.
محمد السعيد مشتهري