عندما نتدبر سياق القرآن، من أوله إلى آخره، نجد أن تفاصيل معظم أحكامه جاءت في سياق تشريعي واحد، باستثناء أحكام الصلاة والزكاة، فلم يأت تفصيل لها في القرآن، وإنما جاءت في سياق خبري، يأمر الله فيه المسلمين بفعلها، أو يحذرهم من تركها، أو التهاون في أدائها.
فتعالوا نتفق أولا على عدة حقائق، فإذا اتفقنا، أصبح من السهل أن نبحث معًا عن حكمة استثناء أحكام الصلاة والزكاة من البيان والتفصيل القرآني.
أولا: كل شيء في هذا الوجود له «اسم»، و«مسمى»، ولولا «المسمى» ما كان «الاسم»، ولولا «الاسم» ما كان «المسمى»، فهما شيء واحد لا ينفصلان، ولقد حمل القرآن الكلمات، «اسم، وفعل، وحرف»، ولم يحمل مسماها، فجميع المسميات عرفتها الشعوب من خلال ما أسميه بـ «منظومة التواصل المعرفي».
ثانيا: إن قراءة أي كلمة من كلمات أي لسان من الألسن، من المستحيل أن تحدث دون سابق معرفة بكيفية النطق بحروفها، كما يستحيل الوقوف على معناها دون تعلق صورتها في ذهن القارئ، وهذا كله يتعلمه الإنسان خارج القرآن، عبر «منظومة التواصل المعرفي».
إن «منظومة التواصل المعرفي» هي التي حملت للناس، من لدن آدم، عليه السلام، جميع العلوم والمعارف والثقافات، وكيفيات أداء المهن، وكيفيات الأداء العملي للعبادات، لأتباع الديانات المختلفة، ولولاها ما كان الإنسان إنسانا، وما كانت هناك جدوى من إرسال الله للرسل، وما تقدمت الأمم والحضارات.
ثالثا: إن كلام الله تعالى، ليس هو الكلمات «الأسماء، والأفعال، والحروف» المدونة في الكتب الإلهية، وإنما هو التفاعل الحي بين هذه الكلمات ومسمياتها الموجودة خارج هذه الكتب، ولولا هذا التفاعل الخارجي، ما تكونت عند الناس الصور الذهنية لهذه الكلمات، وما فهموا كلام الله.
فإذا ذهبنا إلى القرآن الكريم، وجدنا أنه يحمل كلمات وجملا، يستحيل فهمها من داخل القرآن، وأن على القارئ المتدبر لآيات الكتاب الاستعانة بمصدر معرفي خارج القرآن، للوقوف على معناها.
١- مثال للكلمة:
كلمة «قُرُوء»، في قوله تعالى:
«وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ»
فأين في القرآن معنى كلمة «قرء»؟!
وكيف يكون القرآن تبيانًا وتفصيلًا لكل شيء، ولم يُبيّن ما هذا الذي يتربصه المطلقات؟!
٢- مثال للجملة:
جملة «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ»، في قوله تعالى:
«وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ»
فأين بيان وتفصيل جملة «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ»، ومتى أمرنا الله؟! فإن قلت بالفطرة، فإن هذه الفطرة مصدر معرفي خارج القرآن.
رابعا: نعلم أن «الوضوء» مفتاح الدخول إلى «الصلاة»، وقد وردت كيفية أدائه في سياق واحد، وبصورة تفصيلية عَلَقَت بأذهان المسلمين جميعًا، ولكن «الصلاة» نفسها، التي هي الأصل، لم تأت كيفية أدائها، لا في سياق واحد، مثل الوضوء، ولا في سياقات متعددة.
فتعالوا نتدبر هذا السياق الذي بيّن أركان «الوضوء» بصورة تفصيلية:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
انظر إلى هذا التفصيل الدقيق: «إِلَى الْمَرَافِقِ»، «إِلَى الْكَعْبَيْنِ» …، ثم تدبر ماذا قال الله تعالى قبل هذا التفصيل: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ».
إن الله تعالى يخاطب قومًا يعلمون جيدًا مفهوم «الصلاة»، وكيف يؤدونها، فما الذي كانوا يفعلونه بعد «الوضوء» حتى يكونوا من مقيمي الصلاة؟!
إنه لا يوجد في القرآن سياق واحد يُبين كيفية أداء «الصلاة»، مثل سياق الوضوء، سواء كانت بمعنى الدعاء، أو تلاوة القرآن، أو التسبيح، أوالسجود، أو القيام ثم السجود، أو الهيئة التي توارثها المسلمون جميعًا عن رسول الله.
خامسا: هل هناك مسلم عاقل يمكن أن يقبل أن يأتي تفصيل الوضوء في سياق واحد، أما الصلاة، فعليه أن يبحث وينقب عن تفاصيلها بين آيات الذكر الحكيم؟!
مثال، يقول الله تعالى:
«وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ ..»
فإذا تدبرنا قوله تعالى: «فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ»، علمنا:
١- أن المخاطبين يعلمون مسبقا ما هي هذه «الصلاة»، ولكن أين هي الآية التي بيّنت لهم مفهوم هذه «الصلاة» وكيفية أدائها؟!
٢- إن جملة «فَأَقَمْتَ لَهُمُ» لا علاقة لها بهيئة «القيام» التي هي ركن من أركان الصلاة، حسب الهيئة التي ورثها المسلمون جميعًا، ويبقى أن نبحث عن معنى «فَأَقَمْتَ لَهُمُ»، يعني ما الذي فعله النبي للذين معه؟!
فإذا استكملنا تدبر سياق الآية، نجد قوله تعالى: «فَإِذَا سَجَدُوا»، ويستحيل أن ينطق إنسان بحروف هذه الجملة، أو يفهم معناها، دون تعلق صورة «السجود» بذهنه، ولذلك فإن كل ما يتعلق بفعل «سَجَدُوا»، قد حصل عليه من مصدر معرفي خارج القرآن.
فلو أن شخصًا رآك «قائمًا» أو «ساجدًا» تصلي، ولم تكن لديه صورة ذهنية مسبقة لهذه الأفعال، وأنها تتعلق بصلاة المسلمين، فيستحيل أن يفهم ماذا يفعل هذا الرجل؟!
سادسا: إن كل محاولات فهم الكلمة القرآنية «اسم، فعل، حرف» من داخل النص القرآني فقط، محاولات فاشلة متهافتة، القصد منها هدم أحكام الشريعة القرآنية، ذلك أن القرآن لم يكن هو المصدر المعرفي الأول الذي استقى منه العرب، أهل اللسان العربي، معنى الكلمة القرآنية، ولا مفهوم القيام والركوع والسجود!!
لقد نزل القرآن بلسان العرب، الذي كانوا يتحدثون به قبل نزول القرآن أصلا، فدلالات الكلمات القرآنية، وصورها الذهنية، كانت سابقة على نزول القرآن، أي أن القرآن خاطب العرب من خلال «منظومة التواصل المعرفي» التي حملت لهم الأسماء، والمسميات، وصورها الذهنية.
إن الذين يتصورون أن العرب كانوا «أعاجم»، ثم تعلموا اللسان العربي من القرآن، وأصبح القرآن هو المصدر المعرفي الأول للسان العربي، الذي تعلم النبي والعرب من خلاله الأسماء والمسميات..، هؤلاء كفروا بالقرآن، وبالآية الإلهية التي حملها للناس.
إن ما سبق بيانه من حقائق، طبعا من وجهة نظري، إذا اتفقنا عليها أصبح من السهل الاتفاق على أي شيء قام عليها، وإذا لم نتفق، إذن فما جدوى التعليقات، والحوارات ونحن مختلفون أصلا في القواعد الأصولية؟!
أما إذا أردنا ضرب بعض الأمثلة، على التعسف والعشوائية في محاولات البحث والتنقيب عن مفهوم الصلاة من داخل القرآن، فأقول:
١- هناك من ذهب إلى عصر زكريا، عليه السلام، ليفهم منه كيفية أداء الصلاة، فوجد الله تعالى يقول: «فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌۭ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ»، فقال: وجدتها، إنه «القيام»!!
ولكن فاته، أن موضوعنا ليس عن «القيام»، وإنما عن مفهوم كلمة «الصلاة» ذاتها؟!
نعم، لقد كان زكريا، عليه السلام، «قائما»، لكن كان بيعمل إيه بالضبط وهو قائم؟!
هل كان «قائما» يتلو القرآن، أم يدعو الله، أم يقيم هيئة الصلاة المعروفة بين المسلمين، من قيام وركوع وسجود، أم يقيم القيام والسجود فقط، أم يقيم السجود فقط؟!
أم أن كل هذه الهيئات، من قيام وركوع وسجود، ما هي إلا صفات للمؤمن، وغير مطلوب منه أن يفعل شيئًا، استنادا إلى وصف الله للذين آمنوا برسول الله محمد، بقوله تعالى:
«مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ..»
ومما يثبت عدم صحة هذا الفهم، أن «رُكَّعًا سُجَّدًا» حالان، لأن الرؤية بصرية «تَرَاهُمْ»، واختار من أحوالهم الركوع والسجود، دون القيام، لأن القيام لا يعني أن فاعله يصلي، فقد يكون واقفا لأي سبب آخر!
أما الركوع والسجود فمن هيئات الصلاة التي عرفها العرب من لدن إبراهيم عليه السلام، فأراد أن يُصور إخلاص عبوديتهم لله تعالى، كأنهم يقضون حياتهم في صلاة وصلة دائمة بالله تعالى: «ركعاً سجداً».
٢- وهناك من ذهب إلى أهل الكتاب، يتعلم منهم كيف يُصلي، فوجد الله تعالى يقول:
«لَيْسُوا سَوَاءً، مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَـتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ»
إن أهل الكتاب «لَيْسُوا سَوَاءً»، فمنهم أمة قائمة على الحق، ومنهم أمة قائمة على الباطل، ومن أحوال الأمة القائمة على الحق، أن أفرادها يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون.
والسؤال: ما علاقة الأمة القائمة على الحق، بهيئة «القيام»، سواء كان القيام للصلاة، أم لغير الصلاة؟!
ثم إن الله تعالى يقول عن هذه الأمة: «يَتْلُونَ ءَايَـتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ»
فإذا أخذنا السجود بمعنى الخضوع: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ»، كان المعنى: «يَتْلُونَ»، أي يتبعون آيات الله، وهم «خاضعون»
أما إذا أخذنا السجود بمعنى الهيئة المعروفة، كان المعنى: يتلون آيات الله وهم ساجدون.
وبصرف النظر عن هل السجود بمعنى «الخضوع» أم بمعنى «الهيئة»، فما علاقة أمة النبي الخاتم محمد أصلا بما كان يفعله أهل الكتاب في عباداتهم، وأقرهم الله عليه؟!
الحقيقة هناك الكثير من الاجتهادات العشوائية، التي يتبع أصحابها كما أقول دائما، قاعدة «القص واللصق»، لإصرارهم على فهم القرآن من داخل القرآن، بدعوى أن الله تعالى يقول:
«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ»
«وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا»
والسؤال: هل فهم النبي محمد، عليه السلام، كلمات القرآن «الأسماء، والأفعال، والحروف» لأنه تعلم اللسان العربي من داخل القرآن، أم أنه تعلم هذا اللسان من البيئة التي ولد فيها، قبل بعثته بزمن؟!
إذن فكيف نتحدث عن أحكام الشريعة القرآنية، ونختلف حول استنباط أحكامها، وباب الدخول إلى القرآن أصلا مغلق، لأننا لا نريد الاعتراف بـ «منظومة التواصل المعرفي»؟!
إن «منظومة التواصل المعرفي» هي التي حملت «اللسان العربي» لأهل الجزيرة العربية، قبل بعثة النبي الخاتم محمد، عليه السلام، ثم للعرب جميعا على مر العصور، حتى وصل إلينا اليوم، فكيف نقول «القرآن وكفى»، إلا إذا كان القرآن «أعجميًا»؟!
محمد السعيد مشتهري