هناك من يدّعون أن القرآن يجب أن يُفهم من داخله، دون الاستعانة بأي أداة من خارجه، لأن الله تعالى يقول:
« وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ »
« وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا »
وهؤلاء يخدعون أنفسهم، والمساكين الذين يتبعونهم بغير علم، إلا إذا كانوا قد سقطوا علينا من السماء، فإذا بهم ينطقون بحروف «اللسان العربي» الذي نزل به القرآن، ويقرؤون كلماته، ولم يسبق لهم أن عاشوا بين العرب، ولا ولدوا في بيئتهم.
إن هؤلاء الذين يضعون رؤوسهم في الرمال، ويدّعون أنهم يقرؤون القرآن قراءة معاصرة، دون الاستعانة بأي أداة من خارجه، عليهم زيارة أحد علماء النفس، ويسألوه:
كيف استطعنا قراءة القرآن اليوم، والتعرف على مسميات كلماته؟!
سيقول لهم:
منذ أن كنتم أطفالا، تعلمتم الأسماء والمسميات، وتعلقت صورها بأذهانكم، وكذلك جميع العلوم والمعارف.
فإذا لم تشاهدوا صورة «الكعبة»، ولم يقل لكم أحد أن هذا الشيء اسمه «الكعبة»، يستحيل أن تتعرفوا عليها ولا على اسمها عند رؤيتها.
وإذا لم تشاهدوا «بابا وماما» يصلّون، ويركعون ويسجدون، وقمتم بتقليدهم بالمحاكاة، كما تواصلت هذه المحاكاة بين المسلمين جميعا قرونا مضت، ولم يقل لكم أحد إن هذه هي «الصلاة» التي أمر الله المسلمين بإقامتها، فإنه يستحيل أن تتعرفوا عليها.
فإذا خرج عليكم من يدعي أن هذه «الكعبة» ليست هي «الكعبة» التي كانت في عهد الرسول، وأن هذه «الصلاة» ليست هي «الصلاة» التي صلاها الرسول، فقولوا له:
إن «الكعبة» التي يعرفها المسلمون اليوم، ليس لها صورة في كتاب الله، ولا عنوان الوصول إليها، وكذلك تفاصيل «الصلاة» التي يؤديها المسلمون اليوم.
إن معظم الآيات التي تحدثت عن «الصلاة» جاءت على سبيل «الخبر»، والباقي «أمر» بإقامتها، ولا توجد آية واحدة تُبيّن كيفية أداء هذه «الصلاة»، كما بيّنت آية «الوضوء» كيفيته بالتفصيل، مع أن هذا «الوضوء» شرط لصحة هذه «الصلاة»: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ …»
إذن، فما هي هذه «الصلاة»، التي يُعتبر هذا «الوضوء» شرطًا لها؟!
وبما أنه لم تصل إلينا حقيقة تاريخية واحدة، تثبت أن هذه «الكعبة» ليست هي «الكعبة» التي يعرفها المسلمون اليوم، وأن هذه «الصلاة» ليست هي «الصلاة» التي يؤديها المسلمون جميعا اليوم، إذن فعلى أي أساس منطقي نقبل ادعاءات المحريفين؟!
إن المحرفين يتعاملون مع الكلمة القرآنية، «اسم، فعل، حرف» بذاكرة سلفية، وبصورة ذهنية تاريخية، وهم لا يشعرون، ثم يقولون: إن القرآن يجب أن يُفهم دون الاستعانة بأي أداة من خارجه!!
إن أزمة الأصدقاء «الترانزيت»، وأصحاب القراءات الشاذة للقرآن، أزمة واحدة، فهم يتعاملون مع ما أنشره دون دراسة المنهجية العلمية التي أقمت عليها مشروعي الفكري، وهذه المنهجية العلمية، تحمل أدوات لفهم القرآن، يستحيل «طبعا من وجهة نظري» فهم القرآن دون الاستعانة بها مجتمعة.
إن «السياق القرآني» هو هذا القرآن الذي أمامنا، من سورة الفاتحة وحتى سورة الناس، أما «علم السياق القرآني» فهو «كيف نفهم» هذا السياق، وما هي الأدوات المطلوبة لذلك.
إن أدوات فهم القرآن، التي أقمت عليها مشروعي الفكري، هي:
أولا: «منظومة التواصل المعرفي»، وهذه لا علاقة لها بما يسميه أئمة السلف بـ «التواتر العملي» المذهبي، ولا علاقة لها مطلقا بتراث أئمة السلف ومذاهبهم المختلفة، وقد فصّلت ذلك في مؤلفاتي، وفي حلقتين كاملتين «الثالثة والرابعة» من برنامج «نحو إسلام الرسول».
ومع أني دعوت أصحاب القراءات الشاذة للقرآن، والأصدقاء الترانزيت، إلى الاطلاع على ما كتبته، وسجلته في حلقات عن هذه المنظومة، لم يستجب أحد، لذلك نراهم يتخبطون، ويقولون ما لا يعلمون.
أما الصديق رضا رامي، الذي يدعوني لاستكمال الحوار معه، فقد تفوق على كل المتخبّطين، والمحرّفين، والشتّامين..، وقال عن هذه «منظومة التواصل المعرفي»:
«ولو أنّ كل واحد منا اجتهد في دراسة الكتاب، ثم تدارس الناس ما انتهوا إليه، لتغير شكل الدّنيا، ولظهر لك ولغيرك أن ما بين كتاب الله وبين المنظومة النجسة التي تدعوا إليها بعد المشرقين».
وتعليقي على هذه الفقرة، أن «منظومة التواصل المعرفي»، التي وصفها بأنها «نجسة»، هي التي جعلت منه إنسانًا، تعلم في المدارس، وأصبح يتكلم، ويُحاور، ويجادل بغير علم.
ثانيا: علم اللسان العربي
ثالثا: علم السياق القرآني
رابعا: آليات التفكر والتعقل والتدبر… وهو ما أسميه بآليات عمل القلب.
خامسا: العلوم الكونية «آيات الآفاق والأنفس»
وكل هذه الأدوات تعمل مجتمعة، بهدف الوصول إلى فهم النص، «داخليًا»، وتفاعله مع مقابله الكوني، «خارجيًا».
ولذلك عندما نريد فهم النص، علينا:
أولا: الوقوف على ما تضمنه من أغراض، فقد تتعدد المعاني بتعدد الأغراض، وهنا يظهر الفرق بين «الفهم»، و«الفقه» الذي هو أخص وأدق من مجرد فهم معنى الكلمة أو الجملة، كما ورد في مراجع اللسان العربي.
وطبعا ليس المقصود بـ «الفقه» هنا المصطلح السلفي.
ثانيا: الوقوف على ما حمله السياق من أساليب بيانية، يستحيل فهم النص دون أن يكون متدبر القرآن على دراية بها.
فعندما يقول الله تعالى:
« تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا »
١- هناك مستوى ثقافي يفهم الآية على أنها تتحدث عن دلائل الوحدانية، وانتهى فهمه عند هذا الحد.
٢- وهناك مستوى ثقافي آخر يبحث عن معنى كلمة «سراج» في القرآن، فيجد قوله تعالى مخاطبا النبي:
«وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا»
فيعلم أن السراج شيء منير كالقمر: «وَقَمَرًا مُّنِيرًا»، ولكن ما هو؟!
فيجد قوله تعالى:
« وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا »
إذن فالسراج هو الشمس، ولكن ما الفرق بين جعل القمر «نُورًا»، وجعل الشمس «سِرَاجًا»؟!
فيجد قوله تعالى:
«وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا»
فيتوقف عند «وَهَّاجًا» فلا يجد لها معنى في كتاب الله مطلقًا.
فيذهب إلى مراجع اللسان العربي، فيجد أن المقصود بالسراج الوهاج الشمس وأنها وصفت بكونها سراجًا لأنها كالمصباح في إضاءته لما حوله، ووصف السراج بأنه وهاج مبالغة في شدة ضيائه وحرارته.
فكيف كان رسول الله (سراجا) ، و(منيرا)
ثم يقولون: والكلام على التشبيه البليغ، لتقريب صفة المشبه إلى الأذهان.
٣- وهناك مستوى علمي ينظر إلى الآية على النحو التالي:
لقد غاير السياق بين وصف الشمس ووصف القمر، فسمى القمر منيرًا لا مضيئًا لأنه جسم مظلم يعكس ما يسقط عليه من ضوء الشمس.
ثالثا: الوقوف على ما يُسمى في علم البيان «إيجاز حذف، وقصر»
ومن أمثلة «إيجاز الحذف» قوله تعالى: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ»، فكيف يسأل القرية؟!
إذن المقصود «وسئل أهل القرية»، باعتبار شيوع الخبر في أهل القرية، وكأن القرية كلها تكلمت به.
أما «إيجاز القصر» فهو بُنْيَةُ الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف، مثل قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ»
رابعا: الوقوف على الأساليب البلاغية
عندما يقول الله تعالى:
« وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ »
نحن نعلم أن الدّار تطلق على المكان أو القرية أو البلد التي يعيش فيها المرء، وتبوء الدار اتخاذها سكنًا، ولكن، ما معنى تبوء المرء «الإيمان»، وهل يصح أن يأتي «الْإِيمَانَ» مفعولاً لـ «تَبَوَّءُوا»؟!
يستحيل أن تجد الإجابة على هذا السؤال داخل القرآن، فستذهب للبحث عنها في مراجع اللسان العربي، وعندها ستعلم أن هناك ما يسمى بالاستعارة المكنية، بتشبيه «الإِيمان» بالمكان الذي يسكنه المؤمن.
وطبعا، لأن هذا المنشور ليس درسا في «علم السياق القرآني»، ولا في «علم البيان»، و«الأساليب البيانية»، فأكتفي بمجرد القول:
إن هناك مصدرا معرفيا خارج القرآن، يحمل عشرات الأدوات، التي يستحيل فهم النص القرآني دون الاستعانة بها.
والسؤال لجهابذة القراءات الشاذة للقرآن:
هل ما سبق بيانه، عن دلالات بعض كلمات آية واحدة من القرآن، يمكنكم التوصل إليه، من داخل القرآن؟!
يقول الصديق رضا رامي:
«ثم إنّك تقول عن هذا العلم:
«يستحيل فهم القرآن، واستنباط أحكامه دون الاستعانة به»
حسنًا؛ فهذه بعض الأحكام مثلاً، ونريد تطبيق قاعدة الاستحالة والاستنباط منها»
ثم جاء بالآية «١٠» من سورة الممتحنة، واستخرج منها ما حملته من أحكام، ثم سأل: «وما دخل علم السياق (بافتراض وجوده جدلاً) باستخراج حكم الله؟! وأين استحالة الفهم واستحالة الاستنباط في هذه الأحكام بدون علم السياق الوهمي هذا؟!
أقول: إننا لو جئنا بتلميذ من المرحلة الإعدادية، وقلنا له استخرج من هذه الآية ما حملته من أحكام، سيأتي بما أتى به الصديق رضا:
«حكم الله بامتحان المؤمنات المُهاجرات..، حكم الله بعدم إرجاع المؤمنات المُهاجرات..، حكم الله بعدم حلّ المؤمنات للكفار..، حكم الله بعدم الإمساك بعصم الأزواج الكوافر..، حكم الله بإيتاء الأزواج الكُفّار ما أنفقوا..، حكم الله بسؤال الأزواج الكوافر..، حكم الله بجواز نكاح..»
أما ما حملته هذه الآية، وهذه الأحكام، من أساليب بلاغية، فالموضوع يطول شرحه.
إن كل الأدوات التي حملها مشروعي الفكري، لفهم وتدبر القرآن، هي مصادر معرفية خارج القرآن، ويستحيل فهم القرآن دون الاستعانة بها.
وكل الذين يدّعون فهمهم للقرآن، دون الاستعانة بأدوات من خارجه، هؤلاء نزلوا من السماء لتحريف كتاب الله، وإسقاط أحكامه، بدعوى أن الله تعالى قد فصّل كل شيء تفصيلا!!
محمد السعيد مشتهري