لقد بعث الله نبيه الخاتم محمدًا بقرآن يحمل الآية الدالة على صدق نبوته وبلاغه عن الله، وطلب من المرتابين والمكذبين أن يأتوا بمثل سورة من سور هذا القرآن، فإن فعلوا أسقطوا «الآية الإلهية»، وأسقطوا «النبوة».
والذي يؤمن بأن القرآن آية إلهية، عندما يتدبر قوله تعالى:
«وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا، وَلَن تَفْعَلُوا، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»
يعلم ما يلي:
أولا: أن من يشك، في أي وقت وفي أي مكان، أن القرآن الذي بين أيدي المسلمين، هو كلام الله، ورسالته الخاتمة التي حملت «الآية» الدالة على صدق «نبوة» رسوله محمد، عليه أن يأتي بسورة واحدة من مثل سور هذا القرآن:
«وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».
ثانيا: عندما طلب الله من المرتابين أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن، لم يكن المطلوب أن يأتوا بسورة بعد إعادة صياغة كلماتها في جمل جديدة، وبأسلوب بلاغي، مثل أسلوب الجمل التي احتوتها سور القرآن.
لأنه لو كان هذا هو المطلوب، لانتصر أهل اللسان العربي من الجولة الأولى، فما أسهل أن يأتوا بسور القرآن كلها، وليس بسورة واحدة فقط، وقد فعل ذلك حديثا قوم، كتبوا كتابا سموه «الفرقان الحق»، وادعوا أنه مثل القرآن، وهذا الكتاب منشور على شبكة الإنترنت.
«مفيش مشكلة، الموضوع سهل جدا، أي واحد يعمله قرآن»
ثالثا: عندما يطلب أحد منك أن تأتي بمثل شيء، فهذا معناه أن تأتي بكل تفاصيل هذا الشيء الدقيقة، ومعلوم أن الكلمة العربية مكونة من «اسم، وفعل، وحرف»، وبدون أن يكون للكلمة «مسمى» شاهده الإنسان من قبل، يستحيل أن يتعرف لا على «الكلمة» ولا على «المسمى».
لذلك عندما عرض الله على الملائكة مسميات الأشياء، وطلب منهم أن يأتوا بأسمائها:
« فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ »
قالوا: « سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا »
لأنهم يستحيل أن يأتوا بأسماء هذه المسميات، التي عرضها الله عليهم، ولم يسبق لهم أن شاهدوها، ولا عرفوا أسماءها!
رابعا: لقد كان المطلوب من المرتابين والمكذبين لنبوة رسول الله محمد، أن يأتوا بـ «المسميات» وليس فقط بـ «الكلمات»، فإن قالوا: ها هي «المسميات» موجودة في الكون من حولنا، قالوا لهم:
إن الله طلب منكم «المثلية»، أي أن تخلقوا مثل هذه «المسميات»، إن كنتم صادقين في دعواكم أن هذا القرآن ليس من عند الله!
ولما كان المخلوق يستحيل أن يتصف بصفات الخالق، وأن مدّعين الإلهية على مر العصور عجزوا أن يخلقوا ذبابة:
« إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ »
وجه الله خطابه إلى المرتابين والمكذبين قائلا: «فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا – وَلَن تَفْعَلُوا»
إن حفظ «الذكر»، يعني «حفظ الكلمة ومقابلها الكوني»، الذي يستحيل تذكر الكلمة دون معرفة مقابلها الكوني مسبقًا، إذن فقوله تعالى: «وَلَن تَفْعَلُوا» يعني أن الله تعالى سيحفظ هذا «الذكر» إلى يوم الدين.
خامسا: وإذا كانت حروف الهجاء العربية، التي تعلمها المسلمون في طفولتهم، منذ بعثة النبي الخاتم، وإلى يومنا هذا، هي نفسها حروف كلمات القرآن الذي بين أيدينا اليوم، ولا ينكر ذلك عاقل.
إذن فمن هذا الشيطان الجهبذ، الذي استطاع أن يقف أمام حفظ الله لـ «الذكر»، ومسح من الذاكرة العربية «الكلمة ومقابلها الكوني»، ثم ابتدع لهم منظومة من المفاهيم والدلالات الشاذة للكلمة القرآنية؟!
لقد عجز الشيطان أن يخترق كتاب الله الخاتم، القرآن الكريم، كما اخترق الكتب السابقة، فراح يخترق الكتاب بأسلوب ماكر، عن طريق تفكيك بنية السياق، وتحريف دلالات الكلمات، وإسقاط الأحكام، فيعبد المسلمون ربهم بغير الدين الذي ارتضاه لهم.
«وألف مبروك للشيطان الجهبذ»
سادسا: منذ عصر الرسالة الخاتمة، وإلى يومنا هذا، مرت قرون كثيرة، وكان على المسلمين، المؤمنين، المهتمين بمعرفة دينهم، الباحثين عن الحق، الذين يريدون قراءة القرآن قراءة معاصرة، أن يجيبوا أولا على هذا السؤال:
متى، على وجه التحديد، وأكرر «على وجه التحديد»، استطاع هذا الشيطان الجهبذ، أن يخترق منظومة «الذكر» المحفوظة بحفظ الله تعالى، ويحرف كلماتها، ومدلول مسمياتها؟!
متى كانت إقامة الصلاة دقائق، دقيقة وقت الفجر يتلو فيها المسلم بعض آيات القرآن وكذلك دقيقة وقت العشاء؟!
ومتى أصبحت الزكاة تزكية للنفس، وأصبح الصوم صيام النفس عن الشهوات، وأصبح الحج في أي وقت؟!
ومتى أصبح القتل غير القتل، والذبح غير الذبح، والقطع غير القطع، والشجرة غير الشجرة؟!
ثم متى أصبحت الشهور العربية ليست هي التي عرفها الناس من لدن آدم عليه السلام، فرمضان ليس هو، وذي الحجة ليس هو، والمحرم ليس هو؟!
«وألف مبروك للشيطان الجهبذ»
لذلك أقول لجهابذة القراءات القرآنية المعاصرة:
هناك علم اسمه «علم السياق القرآني»، فتعالوا نتعلم الدرس الأول منه، والمتعلق بجذر كلمة «قطع»، التي وردت في كتاب الله «٣٦» مرة، وذلك على النحو التالي:
أولا: بمعنى الفصل التام بين شيئين
١- « وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ » (البقرة ٢٧)
٢- « وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ » (الرعد ٢٥)
٣- « لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ » (الواقعة ٣٣)
٤- «مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ» (النمل ٣٢)
ثانيا: بمعنى الاجْتياز على وجه الاستعارة
١- « وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ » (التوبة ١٢١)
وقطع الوادي: انفصال ما سبق اجتيازه عن الذي نجتازه.
ثالثا: الانفصال بين شيئين على سبيل التشبيه
١- « وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ » (البقرة ١٦٦)
تشبيه لهيئة الكافرين، الذين خاب أملهم في الحصول على نعيم الآخرة، بمن يحاول الصعود إلى مكان مرتفع وهو ممسك بحبل، حتى إذا أوشك الوصول إلى قمة هذا المكان، انفصل هذا الحبل عن جسده، فسقط هالكاً.
٢- «لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ» (الأنعام ٩٤)
٣- « فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ » (الحج ١٥)
يشبه المكذب بآيات الله، بمن مدّ حبلا إلى أقصى ارتفاع استطاع، ثم قطع الحبل بيده فماذا سيحدث له؟!
رابعا: القطع المعنوي
١- « لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ » (آل عمران ١٢٧)
إن الطرف، في هذا السياق، هو الجزء الهام المتطرف من الجسد، كالرأس، أو اليدين، أو الرجلين، وهي استعارة لبيان استئصال زعماء الكفر.
٢- « فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ » (الأنعام ٤٥)
والقطع هنا كناية عن الاستئصال، بدلالة سياق الآية قبلها، ومثله قوله تعالى: – «وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ» (الحجر ٦٦)
– «وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ» (الأعراف ٧٢)
– « وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ » (الأنفال ٧)
٣- « لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ » (التوبة ١١٠)
٤- «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» (يوسف ٣١)
٥- «مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» (يوسف ٥٠)
وبتدبر سياق (الآية ٣١) من سورة يوسف، يتبين لنا أن القطع جاء بالمعنى المجازي، وليس المادي، وذلك للمبالغة في بيان مدى ذهول النساء عندما رأين يوسف:
«فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ»
وهنا تظهر بقوة أهمية دراية المتدبر للقرآن بعلم السياق، وباللسان العربي، وبآليات التفكر والتعقل..، لأنه مهما وصل ذهول النساء إلى منتهاه، يستحيل أن يقطعن أيديهن بلحمها وعظامها بسكين وضع على مائدة الطعام!
خامسا: القطع المادي
١- «أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ» (المائدة ٣٣)
إن التدرج في العقوبة، يبين أن معنى القطع في هذا السياق هو الاستئصال، ثم تأتي جملة « مِّنْ خِلافٍ » لتكون قيدًا لهذا الاستئصال، ولبيان أن العضو المقطوع هو عضو مُخالف لعضو آخر.
٢- « وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ » (المائدة ٣٨)
ولقد جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن جزاء المفسدين في الأرض، «الآية ٣٣ السابقة»، فتأخذ حكمها، وقوله تعالى: « جَزَآءً بِمَا كَسَبَا » يُبيّن أن القطع جزاءٌ على فعل السرقة.
٣- « لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ » (الأعراف ١٢٤)
٤- « فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ » (طه ٧١)
٥- « لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ » (الشعراء ٤٩)
٦- « ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ » (الحاقة ٤٦)
٧- «مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا» (الحشر ٥)
إن قوله تعالى « أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا »، يُبيّن المعنى المادي لـ «قَطَعْتُم»
سادسا: التفرق والتقسيم والتقطيع
١- « وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً » (الأعراف ١٦٠)
٢- « وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً » (الأعراف ١٦٨)
٣- «كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ مُظْلِماً» (يونس ٢٧)
٤- « فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلْلَّيْلِ » (هود ٨١)
٥- « فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ » (الحجر ٦٥)
٦- «وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ» (الرعد ٤)
٧- « وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ » (الرعد ٣١)
٨- « وَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ » (الأنبياء ٩٣)
٩- « فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ » (المؤمنون ٥٣)
١٠- « فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ » (الحج ١٩)
١١- « وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ » (محمد ١٥)
١٢- «أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ» (محمد ٢٢)
١٣- « أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ » (العنكبوت ٢٩)
فهل من المنطق، أن نترك كل دلالات كلمة «قطع» الواردة في السياق القرآني، والصور الذهنية لمسمياتها، «مقابلها الكوني»، التي حملتها قلوب الناس قرونا من الزمن، ليكون معنى القطع هو فقط «المنع» أو «الجرح»، لإرضاء منظمات حقوق الإنسان العالمية؟!
الحقيقة، وحسب أصول المنطق الذي يتعامل به أصحاب القراءات القرآنية المعاصرة، وحسب منهج البحث العلمي المناسب لهذا المنطق، كان الأكرم بأصحاب هذه القراءات، أن يعلنوا عدم اعترافهم أصلا بأن الآيات السابقة من القرآن الذي أنزله الله على رسوله محمد، حتى لا يخدعوا أنفسهم، وأنفس المساكين الذين يتبعونهم بغير علم.