نريد أن نتدبر الآيات التالية:
١- « أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ »
٢- « وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ »
٣- « سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا »
ما المقصود بـ « كلام الله » في الآيات السابقة؟! هل هو:
أولا: « كلام الله » الذي يشمل كلمات سور القرآن كلها، بداية بسورة الفاتحة، وحتى سورة الناس؟!
ثانيا: وهل عندما يقول الله تعالى:
« ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ »
هل « الكتاب »، الذي لا ريب فيه، والذي هو هدى للمتقين، هو كلام الله الذي أنزله على رسوله محمد؟!
ثالثا: وعندما يقول الله تعالى:
« أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا »
هل « القرآن »، الذي أمر الله بتدبره، هو كلام الله الذي أنزله على رسوله محمد؟!
رابعا: وعندما يقول الله تعالى:
« تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا »
هل « الفرقان »، الذي أنزله الله على عبده محمد، الذي يَفْرق بين الحق والباطل، فيكون للعالمين نذيرا، هو كلام الله الذي أنزله على رسوله محمد؟!
خامسا: وعندما يقول الله تعالى:
« فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ »
فهل « النور »، الذي أنزله الله، هو كلام الله الذي أنزله على رسوله محمد؟!
سادسا: وعندما يقول الله تعالى:
« وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ »
هل « الذكر » الذي نُزّل على رسول الله محمد، هو كلام الله الذي تعهد بحفظه، فقال تعالى:
« إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ »؟!
أجيب، فأقول:
إن كلام الله الذي أنزله على رسوله محمد، هو « الكتاب »، وهو « القرآن »، وهو « الفرقان »، وهو « النور »، وهو « الذكر »، وكل هذه صفات متعددة، لموصوف واحد، هو كلام الله.
أولا: الكتاب
يخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال الله تعالى:
« الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ »
ولكن لماذا جعل الله الإخراج من الظلمات إلى النور، في هذه الآية للناس عامة، ثم جعله قاصرا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في سورة الطلاق، فقال تعالى:
« رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.. »
لبيان أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور، لا يكون إلا بعد إسلامهم، وإقرارهم بأصول الإيمان، والتزامهم بأحكام الشريعة القرآنية.
ثانيا: القرآن
حمل في ذاته الآية الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، قال تعالى:
« قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا »
فهل « القرآن » هو الذي حمل الآية الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، أما « الكتاب » فلم يحملها؟!
ثالثا: الفرقان
جعله الله منهجا يعيش به المؤمن، يحميه من التباس الحق بالباطل، فيعيش مطمئنًا يُبصر الأمور على حقيقها، قال تعالى:
« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ »
فهل « الفرقان » هو الذي حمل المنهج، الذي يحمي المؤمن من التباس الحق بالباطل، أما « الكتاب »، و« القرآن »، فلم يحملاه؟!
رابعا: النور
جعله الله نورا مبينا، ليكون حجة على الناس، فمن آمن منهم به دخل في رحمة الله، وهداه الله صراطًا مستقيمًا.
« يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا »
فهل « النور المبين » هو البرهان والحجة، وهو الهادي إلى صراط الله المستقيم، أما « الكتاب »، و« القرآن »، و« الفرقان »، فليس كذلك؟!
خامسا: الذكر
الذي يذكر الناس بما هم عنه غافلون، بداية بدلائل الوحدانية، والإقرار بأصول الإيمان، وما يستلزم ذلك من عمل صالح، والتزام بأحكام الشريعة القرآنية.
ويستحيل أن يتذكر الناس ما تعلموه، وماعرفوه، دون مشاهدته، فآلية التذكر تحمل الصورة الذهنية
« الإسم والمسمى »، لذلك تعهد الله بحفظ « الذكر »، أي بحفظ الكلمة القرآنية ومقابلها الكوني، فقال تعالى في سورة الطلاق:
« .. فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا . رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.. »
نلاحظ في قوله تعالى: « أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا . رَّسُولًا يَتْلُو ..»، أن « رسولاً » بدلٌ من « ذكراً »، يسمى بدل اشتمال، وذلك لأن هناك بين الرسول وكلام الله ملازمةً وملابسةً، كما قال تعالى في سورة البينة:
« .. حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ . رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً »
وهذه الملازمة بين الرسول وكلام الله، هي التي جعلت كل ما أنزله الله على رسوله، وتعهد بحفظه، هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، سواء كان كتابا، أو قرآنا، أو فرقانا، أو نورا، أو ذكرا، فتدبر:
« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ، وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ »
إن إسناد التبيين إلى الآيات « يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ » يستحيل أن يُقصد به بيان كلام الله المدوّن في الكتاب فقط، دون أن تكون صورته الذهنية الكونية مطبوعة في قلب الإنسان، وهو ما أسميه بالمقابل الكوني.
وكما أسند الله تعالى التبيين إلى الآيات، أسنده أيضا إلى الكتاب، فقال تعالى في سورة النمل:
« طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ »
وأسنده إلى القرآن، فقال تعالى في سورة الحجر:
« الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ »
وكل ذلك لبيان أن كلام الله، وآياته المبينات، قد حملها الكتاب، كما حملها القرآن، كما حملها الفرقان، كما حملها النور، كما حملها الذكر، فكلها كلام الله الذي: « لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ »
نعم: لا ترادف في القرآن
ولكن لاحظ: أنه عندما يكون الموصوف واحدا، وتعددت صفاته، يكون لكل صفة معناها الخاص بها، وهذا « المعنى » هو الذي يستحيل أن يترادف مع معنى صفة أخرى.
فعندما يقول الله تعالى: « وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ »، فلا شك أن صفة المغفرة غير صفة الرحمة، ولكن هذا لا يجعلنا نقول: إن لله تعالى ذاتين، ذات اسمها الغفور، وذات اسمها الرحيم!!
إن جهل أصحاب القراءات الشاذة بعلم « البيان »، جعلهم يوظفون قاعدة علمية لا خلاف عليها أصلا بين العقلاء، وهي « لا ترادف في القرآن »، توظيفا غير منهجي، ولا علمي، يخدم هواهم.
لقد ذهبوا إلى أن كلام الله الذي حمله « الكتاب »، غير كلام الله الذي حمله « القرآن »، غير كلام الله الذي حمله « الفرقان »، غير كلام الله الذي حمله « الذكر »، غير كلام الله الذي حمله « النور »!!
وبناء عليه، استطاعوا أن يُسقطوا أحكام الشريعة القرآنية التي لا تتمشى مع هواهم، بأن جعلوا تعدد صفات ما أنزله الله تعددا للذوات، فجعلوا طبيعة الآيات التي حملها الكتاب تختلف عن التي حملها القرآن، تختلف عن التي حملها الفرقان!!
وهذه هي القراءة المعاصرة للقرآن، التي ستذهب بالمسلمين إلى العالمية!!
محمد السعيد مشتهري